تستمر المقالات التحليلية التي تتعلق بالحدث الأفغاني وتداعياته الإستراتيجية، التي لا تقتصر على منطقة غرب آسيا والشرق الأوسط فقط، بل تتعداه الى الساحة الدولية برمتها. حيث يرى البعض أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، لا يتعلق بهزائم امريكا فحسب، بل هو دليل على نهاية الإمبراطورية الغربية (الفكر الاستعماري).
ومن هذا المنطلق كتب "ديفيد هيرست" - المؤسس المشارك ورئيس تحرير موقع Middle East Eye - هذا المقال، وهو الخبير في مواضيع المنطقة، حيث عمل صحافياً في جريدة "The Guardien" البريطانية لسنوات. كما له العديد من الكتب التي ناقش فيها قضايا المنطقة مثل: البندقية وغصن الزيتون، حذار من الدول الصغيرة: لبنان، ساحةُ معارك الشرق الأوسط.
المقال المترجم
إن حساب تكلفة تدخل الغرب في أفغانستان في حياة الجيش الأمريكي والمملكة المتحدة وحده، هو الدليل النهائي على أننا حضارة في حالة انحلال.
وعندما غزت الولايات المتحدة أفغانستان في 7 تشرين الأول 2001، أعلن غلاف مجلة تايم: "آخر أيام طالبان".
وهكذا بدأ ما أصبح يعرف بـ "الحرب على الإرهاب"، عندما سعى المحافظين الجدد لاستبدال الاتحاد السوفييتي المنحل بالإسلام، كتهديد عالمي. وفي حلول كانون الأول ذلك العام، أنشأ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القوة الدولية للمساعدة الأمنية، للإشراف على العمليات العسكرية وتدريب قوات الأمن الوطنية الأفغانية. ومنذ ذلك الحين تم إنفاق أكثر من 2 تريليون دولار. وقتل في منطقة الحرب بين أفغانستان وباكستان، حوالي 241 ألف شخص مدني و2448 جنديًا أمريكيًا و454 جنديًا بريطانيًا. وبعد مرور 20 عامًا عادت طالبان إلى السيطرة.
في عام 2001، تم القضاء على الأفيون بشكل شبه كامل مع 84000 هكتار مزروعة. أما بحلول العام 2017، فقد ارتفع هذا الرقم إلى 328000 هكتار. بعد الحرب، الأفيون هو أكبر نشاط اقتصادي في البلاد. كان أحد أكبر أهداف المجهود الحربي الأمريكي هو تدريب الجيش الأفغاني على محاربة طالبان. كان هذا هو معدل الإصابات والهجر الذي وجد الأمريكيون أنفسهم مضطرين لتدريب مجندين يبلغ مجموعهم ثلث القوة بأكملها.
الفساد، الذي صنفته منظمة الشفافية الدولية في المرتبة 165/180 من البلدان التي تراقبها، ابتلع المليارات من المساعدات الاقتصادية، فبنيت مستشفيات بدون مرضى ومدارس بدون تلاميذ. الفقر منتشر، ومعدلات الوفيات لا تزال من بين أعلى المعدلات في العالم.
القول وقتها، كما قالت بي بي سي الأسبوع الماضي في شرح على موقعها على الإنترنت، إنه خلال 20 عامًا من الاحتلال: "أشرفت الولايات المتحدة وحلفاؤها على الانتخابات وشكلوا قوات أمن أفغانية، لكن طالبان استمرت في شن الهجمات"، يتحدى الاعتقاد. بالإضافة إلى التحقق البدائي من الحقائق.
انهيار الغرب
لكن أرض الخيال التي تستمر فيها الليبرالية الغربية في غرب آسيا والشرق الأوسط، لا تزال مفيدة. يخبرنا الكثير عن سيكولوجية إمبراطورية آخذة في التلاشي. إنها في حالة إنكار، ليس أقلها دورها في هذه الكارثة.
القائد الأعلى للقوات الأمريكية في أفغانستان "ديفيد بترايوس" ورئيس أركان الدفاع في المملكة المتحدة الجنرال السير "نيك كارتر"، وكل جنرال أمريكي وبريطاني خدم هناك، يتحمل عبئًا ثقيلًا من المسؤولية، عن حرب لا يستطيع الشعب الأفغاني تحملها ولا يريدها. لم يجد أي منهم في نفسه مسؤولية تحمل هذه الكارثة، والاعتذار للشعب الأفغاني، إنهم بعيدون جدا عن القيام بذلك. يتذمر "بترايوس" من الخيانة السياسية، كما لو أن عقدًا آخر من قيادته كان سيحل المشكلة، لا أحد يمتلك هذه القدرة.
القوة الجوية التي دعمت الوجود الأجنبي لم تكن حميدة، لم تقدم حقوق المرأة الأفغانية، كانت آلة قتل.
بين عامي 2017 و2019، خفف البنتاغون قواعد الاشتباك الخاصة به فيما يتعلق بالضربات الجوية، وبالتالي زادت الوفيات بين المدنيين بشكل كبير. فبحلول لبعام 2019، قتلت الضربات الجوية 700 مدني أفغاني - أكثر من أي عام منذ بدء الحرب. وكذلك فعلت القوات الجوية الأفغانية، ففي النصف الأول من العام 2020، قتلت القوات الجوية الأفغانية 86 أفغانيًا وجرحت 103. ثم في الأشهر الثلاثة التالية تضاعف هذا المعدل، مما أسفر عن مقتل 70 مدنياً وإصابة 90 آخرين.
لا عجب أن الطيارين استهدفوا من قبل طالبان، وانهارت تلك الروح المعنوية بعد انسحاب الولايات المتحدة. لكن الانغماس في الوهم القائل بأن جيشي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، كانوا في أفغانستان للقيام بأشياء جيدة، هو أبعد ما يكون عن الواقع. كما الوهم بالقول بأن الأنظمة العميلة التي فرضتها الحكومات الغربية على البلاد، تتمتع بشرعية شعبية. فقد تم انتخاب "أشرف غني" مرتين كرئيس، واستمرت شرعية "أشرف غني" خمسة أسابيع بالضبط - من 8 تموز عندما حدد الرئيس الأمريكي "جو بايدن" موعدًا نهائيًا للانسحاب، إلى 15 آب عندما فر مع عائلته من كابول.
تداعيات الهزيمة
هذه الكارثة، ما لا يقل عن أربعة رؤساء أمريكيين كان له يد في صنعها. إنها حقًا جهد من الحزبين. لذا فليس من المبالغة القول، إن الهزيمة في أفغانستان لها آثار تتجاوز حدود ذلك البلد المنهك.
إذا كانت الهزيمة السوفيتية، قبل 32 عامًا، قد شكلت بداية نهاية الإمبراطورية السوفيتية، وبالتأكيد نهاية جميع القوات الروسية الاستكشافية، حتى العام 2015، عندما أرسلوا قوات إلى سوريا. فإن هذه الهزيمة تمثل بداية نهاية الإمبراطورية الغربية، باعتبارها النظام العالمي العسكري والاقتصادي المنظم والمهيمن.
هذا النظام لم ينهار لأنه واجه أعداء أقوياء، بل انهار من الغطرسة. في الغطرسة وعدم القدرة على تحليل وفهم الناس الذين احتلت أرضهم. لقد انهارت هذه الدول في اللحظة التي لم تتحداها أي قوة أخرى، وعندما احتكرت استخدام القوة الدولية. لقد فقدت الإيمان بنفسها وبقادتها، كما فقد قادتها أي إحساس بالخدمة العامة، واصطفوا في وظائف مربحة بعد أن فقدوا السلطة.
أما في السلطة، فقد خصخصوا الحرب، حتى فقد هدف التدخل ذاته أي معنى. فأصبحت السياسة الخارجية فاسدة بسبب المذهب التجاري، وتم الاستعانة بمصادر خارجية لحلفاء إقليميين يملكون أجندتهم الخاصة. وفي حين علمت طالبان ما الذي كانت تقاتل من أجله، فإن الأفغان الذين عارضوها لم يعرفوا ذلك، بالإضافة للقوات التي أرسلتها حكوماتنا هناك للقتال معهم.
رسالة تقشعر لها الأبدان
كل هذا يبعث برسالة تقشعر لها الأبدان إلى الأمراء والجنرالات في الشرق الأوسط، الذين سيكافحون للبقاء خمسة أسابيع، إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها أو دعمها العسكري. يجب أن تسأل المحاكم الملكية في الرياض وأبو ظبي وعمان والقصر الرئاسي في القاهرة نفسها، كم عدد الأسابيع التي ستستغرقها في حالة تمرد إسلامي شعبي قادم بالنسبة لهم.
قال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الشهير، إن المملكة العربية السعودية ستستمر أسبوعين إذا غادرت الولايات المتحدة، لم يكن يمزح.
إذ لم يقاتل الجيش الأفغاني من أجل غني، فهل يعتقد ولي العهد السعودي ووزير الدفاع محمد بن سلمان أن الحرس الوطني الذي قام بتطهير كبار جنرالاته بانتظام، سيقاتل من أجله؟
وغرد المحلل السياسي والأكاديمي السعودي خالد الدخيل: "حالما سقطت كابول في أيدي طالبان، ارتجف البعض من المؤامرة والخوف من عودة الإسلام السياسي إلى المنطقة، والخوف والترقب هو الحكمة والاستعداد. ولكن البقاء خائفًا لعقود وعقود من الهشاشة وضعف البصيرة. أما المؤامرة فهي ليست أكثر من أداة للسياسة والصراع، وبالتالي فهي أقل من شرح للتاريخ وحركته ".
مؤامرة الدخيل كانت تشير إلى مزاعم تتحدث أن الأمريكيين والإسلاميين يعملون يداً بيد، مثلما اشتبه السعوديون في قيام الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بفعله، عندما تخلى عن الرئيس المصري الراحل حسني مبارك خلال انتفاضة 25 يناير (كانون الثاني). لكن في الواقع، فإن العلاقة بين الولايات المتحدة والإسلاميين أكثر خطورة، من علاقتها مع الطغاة والجماعات العلمانية والدينية. فعندما يقاتل الإسلاميون الجنود الأمريكيين، سينتهي الأمر بالولايات المتحدة إلى التحدث معهم، كما فعلوا مع طالبان في اجتماعات الدوحة، وتقبل الهزيمة كما يفعلون الآن في كابول. لكن إذا أعلنت حركة إسلامية مثل "حماس" صراحةً أن قتالها ليس مع الولايات المتحدة، ولم تقتل جنديًا أمريكيًا واحدًا، فإن واشنطن سوف تتجاهل أن حماس عرضت وقفاً طويل الأمد لإطلاق النار، وتعلن أنها منظمة إرهابية، وتمنع على أي فصيل فلسطيني آخر تشكيل حكومة وحدة معها، وتبذل قصارى جهدها لمحاصرة غزة.
وبالمثل، ستفعل الولايات المتحدة الشيء نفسه لأولئك الإسلاميين الذين نبذوا العنف، واختاروا الانتخابات والديمقراطية والبرلمانات. هؤلاء الناس، ستحاول الولايات المتحدة حظرهم.
قبل ثماني سنوات عندما ارتكب الجيش المصري أسوأ مذبحة للمدنيين العزل، منذ احتجاجات ميدان "تيانانمن"، خلال تفريقهم العنيف للاعتصام في ميدان رابعة في القاهرة، عاد أوباما حرفياً إلى لعبة الجولف. وعندما قام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل شهر من تلك الحادثة بانقلاب عسكري، رفض أوباما وصفه بانقلاب. دمروا الديمقراطية وتنظر الولايات المتحدة في الاتجاه الآخر. لكن محاولة الاستقلال عن الولايات المتحدة سوف تنهار، سوف تستنزف الأسواق المالية شريان الحياة من اقتصادك (الخطاب لكل بلد يفكر بالاستقلال عن أمريكا)، وستتم معاقبة بنوكك وأعمالك، وسيتم اغتيال علماءك النوويين.
إن الاعتقاد الإمبريالي بالتفوق الاجتماعي والعسكري والاقتصادي الغربي وافتراضه المتأصل بأن الغرب لديه الحق الأخلاقي في القيادة، لا يفتقر إلى المصداقية فحسب، بل إنه كارثة استراتيجية أيضًا. تفقد الولايات المتحدة نفوذها في عهد بايدن بالسرعة نفسها التي خسرت بها في عهد ترامب، لأنه لم يتغير الكثير في نهاية المطاف.
لا يزال المحتلون والدكتاتوريون، الذين ينتهكون صراحةً المعايير الأساسية لحقوق الإنسان، يكافئون بالمال والسلاح. لا يزال الفساد يتغذى من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، والناس الذين يعانون تحت نيرهم يتم تجاهلهم. عندها لا عجب أن الأفغان لم يقاتلوا طالبان.
الحقيقة الصريحة
هناك بديل لهذا المنطق المجنون للاعتقاد بأنك تروج للديمقراطية من خلال إسقاط الصواريخ من الطائرات بدون طيار على الفقراء من بعد آلاف الأميال. فقط تخيل لو أن الولايات المتحدة أنفقت 2 تريليون دولار على الشعب الأفغاني نفسه. فقط تخيل لو أنها سعت للتأثير على الحركات الدينية المحافظة مثل طالبان، ليس من خلال الحرب، ولكن من خلال المشاركة. ليس من خلال الطائرات بدون طيار، ولكن من خلال الحوار.
فقط تخيل أين ستكون أفغانستان الآن، وتخيل فقط مقدار القوة الناعمة التي ستظل لدى الغرب.
الولايات المتحدة في حالة الانسحاب، تهتم بدرجة أقل بالناس الذين تتخلى عنهم، بقدر اهتمامها بالناس الذين تحتلهم. هناك نزوح جماعي الآن في مطار كابول. أين سينتهي هؤلاء الأفغان؟
بالتأكيد سيصل جزء صغير منهم إلى المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة. سيتوجهون إلى تركيا وأوروبا كما فعلوا في الماضي. على الفور سوف يتحولون في الوعي الليبرالي الغربي من اللاجئين الفارين من الاضطهاد الإسلامي، إلى مهاجرين غير مرغوب فيهم.
انعكست مشاهد الذعر في مطار كابول يوم الاثنين، في جميع أنحاء عواصم أوروبا اليوم.
قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن أوروبا "يجب أن تتوقع وتحمي أنفسنا من تدفقات الهجرة غير النظامية الكبرى". قال وزير الداخلية الألماني "هورست سيهوفر" إنه يتوقع فرار ما يصل إلى خمسة ملايين شخص من أفغانستان.
قبلت ألمانيا مئات الآلاف خلال تدفق المهاجرين في عام 2015. كان الزعيم الألماني الديمقراطي المسيحي أرمين لاشيت مصراً على أن "عام 2015 لا ينبغي أن يتكرر". إن الدول ذاتها التي ساهمت بقوات وجنرالات في القوة الدولية للمساعدة الأمنية، غير مستعدة الآن لقبول العواقب الإنسانية لأعمالهم.
الحقيقة الصريحة هي أن الغرب لم يعد بإمكانه السيطرة على العالم بإلقاء القنابل على أنظمة لا نحبها، ولكن لا يمكننا الانسحاب. يمكنك مغادرة الشرق الأوسط، لكنه لن يتركك أبدًا.
لقد خسر التحالف الغربي المتضخم الحرب في أفغانستان، ظن أنه قادر على هدم طالبان وبناء دولة جديدة من الصفر، مع جهله بتاريخها ولغاتها وشعوبها.
لم ينجح الغرب إلا في نشر وحشية وبؤس الحرب على مدى عقدين من الزمن، تحمل الأفغان بأنفسهم غالبيتها. إن حساب تكلفة هذا التدخل، كما ما زلنا نفعل اليوم، في الحياة العسكرية للولايات المتحدة والمملكة المتحدة فقط، هو الدليل النهائي على أننا حضارة في حالة انحلال.
المأساة هي أنه في حالة التراجع، لن تتعلم الولايات المتحدة الحقيقة القاسية بأن القوة لا فائدة لها. ولن تتعلم الدرس من أنها قوة متراجعة. سوف تتراجع إلى (أداء دور) الضحية والانعزالية، كما فعلت بالفعل في الماضي.
إذا تعلمت الدرس من هزائمها العسكرية، فستبدأ في فعل الأشياء الصحيحة في عالم يواجه بالفعل تهديدًا وجوديًا مشتركًا. تهديد لا يأتي من الشيوعية ولا من الإسلام.
المصدر: Middle East Eye
الكاتب: ديفيد هيرست