لم يكن ما كشفته صحيفة التايمز البريطانية بشأن مشاركة سلاح الجو الملكي البريطاني في جمع المعلومات الاستخباراتية فوق غزة لصالح إسرائيل تطوّراً عابراً أو تفصيلاً ثانوياً. فالتقرير، رغم لغته الحذرة، يؤكّد بوضوح أن لندن طرفاً مباشراً في تغذية آلة الحرب الإسرائيلية، عبر ما توفّره طائراتها من بيانات دقيقة عن تحركات الأرض، والمباني، والاتصالات، والأهداف المحتملة وغيرها.
هذا الدور لا يقتصر على الجبهة الجنوبية، بل يتّسع ليشمل المجال الجوي اللبناني، حيث تنشط الطائرات البريطانية في تنفيذ مهام تجسسية عالية التقنية، تتركّز على مراقبة الاتصالات والرادارات وتحليل الانبعاثات الإلكترونية. التقنيات المستخدمة في غزة هي نفسها التي تُستخدم في لبنان، والفارق الوحيد أن ما يُقال هناك باسم "البحث عن الأسرى"، لا يجد حتى هذا الغطاء هنا. فوق الأراضي اللبنانية، لا حاجة لبريطانيا لتبرير اختراقها للسيادة، طالما أن المظلة السياسية المحلية، في جزء منها، تُقدّم الغطاء الطوعي لهذا السلوك العدواني، إما بالصمت، أو بتحميل المقاومة وحدها مسؤولية التوتر، أو بالمضيّ أبعد من ذلك نحو الترويج للدور البريطاني كـ"وسيط" و"ضامن".
تتجاوز الطلعات البريطانية فوق لبنان مجرد المراقبة الروتينية. فالمعطيات المتداولة في الأوساط التقنية والعسكرية تؤكّد أن طائرات مثل "ريفيت جوينت" و"شادو آر1"، العاملة انطلاقاً من قاعدة أكروتيري البريطانية في قبرص، تقوم بمهام شبه يومية على امتداد الخط الساحلي والجنوبي اللبناني، وتنسّق مع مراكز تحليل في تل أبيب ومواقع مشتركة في البحر المتوسط. الأجهزة المثبّتة على هذه الطائرات تتيح رصد المكالمات والاتصالات اللاسلكية، وتحديد مصادرها الجغرافية، وربطها ببنية التحرك البري، بما يجعلها أحد الأدوات الأكثر فاعلية في صناعة بنك الأهداف الإسرائيلي.
الحديث عن "مساعدة إسرائيل في العثور على الأسرى"، كما ورد في التايمز، ليس سوى واجهة إعلامية لصرف النظر عن الوظيفة الفعلية لهذه المهام. في الميدان، لا يمكن فصل ما تجمعه هذه الطائرات من بيانات، عن النتائج العملانية على الأرض: اغتيالات مركّزة، قصف لمواقع قيادية، وتدمير لمنشآت يزعم أنها مرتبطة بالمقاومة. وفي كل هذه الحالات، لا يُخفى أثر المعلومة التقنية الدقيقة، التي تعجز إسرائيل أحياناً عن الحصول عليها بمفردها.
ما يجري لا يشكّل انتهاكاً موضعياً للسيادة اللبنانية، بل يعكس نمطاً مستقرا من تقاسم الأدوار بين إسرائيل وشبكة من الحلفاء الغربيين، تتقدّمهم بريطانيا. وهذه الأخيرة، التي لم تُخفِ انحيازها السياسي لتل أبيب، انتقلت منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى طور الانخراط العملاني، عبر الدعم الاستخباراتي المباشر، ضمن هندسة عسكرية تضمن لها التأثير دون التورّط الميداني المباشر.
المفارقة أن هذا الانخراط البريطاني، رغم وضوحه، لا يُقابل بموقف سياسي لبناني موحد يضع حدوداً فاصلة في العلاقة مع لندن. بل إن الخطاب الرسمي لبعض الأطراف، سواء داخل الحكومة أو في أطر دبلوماسية، لا يزال يروّج لبريطانيا كدولة "راعية لاستقرار لبنان"، و"ضامنة للحدود"، و"شريك في تعزيز قدرات الجيش"، و"وسيط محتمل" في أي مفاوضات مقبلة، سواء في ملف الترسيم أو إعادة الانتشار الحدودي. هكذا، تُختزل السيادة إلى شعار بلا مضمون، وتُغضّ النظر عن مشاركة فعلية في عدوان مستمر، مقابل وعود بـ"الاحتواء" و"المساعدة التقنية" و"دعم المؤسسات"، بل ومطالبة بوضع أبراج مراقبة على الحدود اللبنانية الفلسطينية على غرار تلك التي شيدت مقابل الحدود السورية.
ما تكشفه الطلعات البريطانية فوق غزة ولبنان هو أن الغرب لا يقدّم لإسرائيل مجرد غطاء سياسي، بل بنية متكاملة من الدعم العسكري والأمني، تبدأ من المعلومات ولا تنتهي عند السلاح والتقنيات والشرعية الدولية. هذا التموضع لا يتبدّد بتغيّر الحكومات أو تبدّل الخطاب، بدليل أن الحكومة البريطانية الحالية، التي توصف بالاعتدال، لم تتردد في مواصلة المهام الجوية فوق غزة، بل إن وزارة الدفاع البريطانية نفسها أقرت باستمرار هذه الطلعات رغم التنديد السياسي العلني بالمجزرة.
المسألة لا تتعلّق بإزدواجية المواقف الغربية، فهذه باتت من ثوابت السياسة الدولية. إنما المسألة الحقيقية في انكشاف الداخل اللبناني على هذا النمط من التدخّل، دون أن تتبلور استراتيجية ردع أو حتى خطاب سيادي متماسك يضع حداً لهذا الخرق المستمر. الصمت الرسمي، أو تبرير الانتهاك، هو الوجه الآخر للتواطؤ. وحين تُغلق السماء أمام المقاومة، وتُفتح أمام الطائرات المعادية، تحت أي علم أو غطاء، فإن المعركة لا تكون بين قوتين على الحدود، بل بين من يملك أدوات الحرب، ومن يتخلّى طوعاً عن أدوات السياسة.
الكاتب: غرفة التحرير