الأربعاء 21 أيار , 2025 03:41

زيارة عباس إلى بيروت: تسوية أمنية أم تصفية ممنهجة للقضية الفلسطينية؟

لقاء محمد عباس والرئيس عون

في السياسة، لا تُقرأ التصريحات كما تُقال، بل كما تُموضع في سياقها البنيوي، وتحلل ضمن شبكة المصالح التي تُنتجها وتُعيد إنتاجها. وزيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى بيروت، في هذا التوقيت تحديداً، لا يمكن فهمها على أنها مبادرة معزولة هدفها "تنظيم السلاح داخل المخيمات"، كما يُسوّق لها، بل يجب النظر إليها كجزء من منظومة أشمل من الضغوط الإقليمية والدولية التي تهدف إلى إنهاء البعد السياسي للقضية الفلسطينية داخل لبنان، وتحويل المخيمات إلى مجرد ملف أمني ينبغي "إدارته"، تمهيداً لتفكيكه.

تحويل المسألة من سياسية إلى أمنية: إزاحة للحقّ وليس حلاً له

الخطاب الرسمي السائد حالياً يضع سلاح الفصائل الفلسطينية في لبنان، وتحديداً سلاح حركة حماس، في دائرة "الخطر الأمني" الداهم، ويتحدث عنه كما لو أنه قنبلة موقوتة تهدد السيادة اللبنانية. هذا الخطاب يعيد إنتاج المفاهيم نفسها التي طُرحت خلال مراحل تصفية المقاومة الفلسطينية في لبنان منذ السبعينيات، والتي بلغت ذروتها في الاجتياح "الإسرائيلي" عام 1982. الجديد اليوم ليس في جوهر الطرح، بل في طبيعته الناعمة، وفي الأدوات المستخدمة: تفاهمات سياسية، رسائل دبلوماسية، ومصطلحات منمّقة حول "بسط سيطرة الدول" و"منع التصعيد".

لكن، "اللغة تُستخدم في السياسة أحيانًا لإخفاء الجرائم، لا لتفسيرها". وهنا تكمن الخطورة: حين يصبح مطلب تجريد اللاجئ الفلسطيني من آخر وسائل الضغط السياسي والأمني – أي السلاح – مطلبًا شرعيًا، وتحت غطاء حماية لبنان، دون أن يرافق ذلك أي حديث عن حقوقه أو مستقبل وجوده، فإننا نكون أمام سياق تصفوي بامتياز.

الضغط الأميركي: من السلاح إلى التوطين

الحديث عن زيارة مرتقبة للمبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس إلى بيروت، وما كشفته مصادر لبنانية عن نية الإدارة الأميركية طرح ملف التوطين كجزء من "حل شامل" للصراع في المنطقة، يعيدنا إلى جوهر "صفقة القرن" التي لم تمت بمغادرة دونالد ترامب البيت الأبيض، بل أُعيد إنتاجها في قوالب جديدة أكثر براعة. وذلك مع عودة ترامب مره أخرى إلى السلطة.

ما تطرحه أورتاغوس ليس جديدًا. هو استمرار لعقيدة أميركية ترى في اللاجئ الفلسطيني عبئًا جيوسياسيًا ينبغي التخلص منه. فإذا لم يُمنح حق العودة، ولم يُمنح حق المواطنة، ولم تُمدّد له وكالة الأونروا خدماتها، فالحل الوحيد أمامه – بحسب هذه المقاربة – هو الذوبان القسري داخل المجتمع المضيف.

لكن المجتمع اللبناني، المأزوم اقتصاديًا وطائفيًا وسياسيًا، لا يملك لا القدرة ولا الرغبة في احتواء هذا الذوبان. والنتيجة: مجتمع فلسطيني مسحوق، بلا تمثيل فعلي، بلا حماية قانونية، بلا مستقبل، ومهدّد بالتهجير مرّة أخرى، هذه المرة لا بالمدافع، بل بضغط المعايير الاقتصادية والتمييز المؤسسي والخذلان السياسي.

دور السلطة الفلسطينية: موظف أمن أم حامل مشروع وطني؟

زيارة عباس لا تحمل أي أجندة وطنية فعلية. لم يَصدر، حتى لحظة وصوله، أي إعلان عن لقاءات مع ممثلي المخيمات، أو عن نية الاستماع إلى هموم الفلسطينيين المقيمين في لبنان. لم يُطرح أي ملف خدماتي أو تعليمي أو صحي على جدول الأعمال، رغم الانهيار الكامل لوضع المخيمات.

الهمّ الوحيد المطروح: "ضبط السلاح"، وليس "ضمان الكرامة". ليس من قبيل الصدفة أن يجري الحديث عن إمكانية تجميع السلاح من يد الفصائل وتسليمه إلى الدولة اللبنانية، من دون أي نقاش جدّي حول شروط اللاجئين السياسية والاجتماعية. هذه ليست تسوية، بل نزعٌ للأدوات التي تُمكّن المجتمع الفلسطيني من الدفاع عن نفسه أمام انزلاق الوضع اللبناني نحو احتمالات الحرب مع الاحتلال أو الفوضى داخل المخيمات.

السلطة الفلسطينية، وفق هذا السلوك، تؤدي دور موظف تنسيق أمني، لا حامل مشروع وطني. إنها تستكمل دورها الذي بدأ في أوسلو، حين قايضت الحق التاريخي بمجموعة من الامتيازات الإدارية والسياسية الهشة، لا تملك القدرة على حماية شعبها لا في الداخل ولا في الشتات.

قضية الأونروا: خنق متعمّد وليس تقصيراً عارضاً

التقليص التدريجي لخدمات وكالة الأونروا، وصولاً إلى ما يشبه حالة الإفلاس المقنّع، ليس أزمة مالية عابرة. هو قرار سياسي تتقاطع فيه ضغوط الولايات المتحدة و"إسرائيل" وبعض الدول الغربية، مع مناخ عربي متخلٍ، يهدف إلى تصفية أحد آخر الشواهد القانونية على النكبة الفلسطينية.

حين تنهار الأونروا، لا يتبقى للاجئ الفلسطيني في لبنان إلا السوق السوداء، والأعمال الهامشية، والموت البطيء. ما يجري ليس عجزًا عن التمويل، بل إرادة في تحويل الفلسطيني من لاجئ له قضية إلى مهاجر بلا قضية. من حامل مفتاح العودة إلى عابر حدود يبحث عن لجوء في أوروبا أو كندا.

عنصرية مقوننة: لبنان والمفارقة الأخلاقية

المفارقة الكبرى أن الدولة اللبنانية، التي ترفع اليوم شعار السيادة لمنع "السلاح غير الشرعي"، لم تنتج خلال أكثر من سبعة عقود أي سياسة تحترم كرامة اللاجئ الفلسطيني أو تعترف بحقوقه الأساسية. بل أنشأت منظومة عنصرية مقوننة تحرم الفلسطيني من العمل والتعليم والتملّك، ثم تلومه لأنه بقي في المخيمات!

اللاجئ الفلسطيني في لبنان يُعامل كخطر ديموغرافي، وليس كضحية لاحتلال مستمر. لا يُسمح له بمزاولة أكثر من 30 مهنة، ولا يُمنح تراخيص إقامة طويلة الأمد، ويُمنع من التملّك، ولا يُقدَّم له أي دعم اجتماعي أو اقتصادي فعلي. ثم يُطلب منه – بعد كل ذلك – أن يتخلّى عن سلاحه! ومن أجل من يتخلي عنه؟

زيارة عباس ليست لحل أزمة بل لتسويق تسوية قسرية

ما يجري لا يعبّر عن بحث صادق في مستقبل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بل عن إرادة دفينة لتصفية هذا الوجود من بوابة الأمن. زيارة عباس، بكل ما تحمله من مؤشرات، ليست سوى جزء من هذه المنظومة: محاولة ناعمة لإقناع الفلسطينيين بأن السلاح عبء، والأونروا خيار انتهى، والعودة حلم مستحيل.

لكن، كما تُظهر التجربة التاريخية، الفلسطيني ليس ضحية سهلة للطمس. فقد وُلدت قضيته في النكبة، لكنها نضجت في المنفى، وصمدت في المخيمات، وراكمت وعيًا سياسيًا واجتماعيًا يجعل من الصعب إلغاؤها بقرارات إدارية أو زيارات رسمية أو مؤتمرات دبلوماسية.

"ليس المهم كم مرة حاولت "إسرائيل" أن تُنهي القضية، بل كم مرة ظنّت أنها نجحت". هذه هي المفارقة التي لا يزال الفلسطيني – برغم كل شيء – قادرًا على إفشالها.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور