حين نحاول فهم السياسات "الإسرائيلية" تجاه قطاع غزة، فإن أي تحليل موضوعي لا يمكنه أن يتجاهل الطبيعة البنيوية لهذه الممارسات كجزء من مشروع استعماري استيطاني طويل الأمد. قرارات بنيامين نتنياهو الأخيرة بوقف دخول البضائع والمساعدات الإنسانية إلى غزة ليست مجرد أدوات ضغط تفاوضية كما يُروَّج لها، بل تمثل امتدادًا لمنهجية تهدف إلى تجويع السكان وتركيع المقاومة، مع إعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة وفق تصورات تتجاهل الحقوق الإنسانية والأعراف الدولية.
من الضروري أن نفهم أن هذه السياسة ليست مجرد رد فعل على موقف حماس، بل هي امتداد لاستراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد تهدف إلى تفريغ أي اتفاق من مضمونه وتحويله إلى أداة للابتزاز السياسي. وقف المساعدات ليس مجرد قرار تقني؛ إنه جزء من مشروع سياسي يهدف إلى إعادة رسم مستقبل غزة وفق الشروط "الإسرائيلية " والأمريكية، حتى لو كان ذلك على حساب حياة أكثر من مليوني فلسطيني في غزة يواجهون خطر الجوع والمرض والموت.
عقاب جماعي أم استراتيجية ممنهجة؟
في سياق التحليل السياسي، علينا أن نضع قرارات نتنياهو في إطار أوسع من مجرد استحقاقات اتفاق وقف إطلاق النار. منذ عقود، استخدمت "إسرائيل" سياسة التجويع والحصار كأداة سياسية، بدءًا من حصار بيروت في الثمانينات، مرورًا بحصار غزة الذي بدأ منذ عام 2007. الجديد هنا هو محاولة إسرائيل دمج هذه السياسة مع الابتزاز التفاوضي، مستخدمة المساعدات الإنسانية كورقة مساومة.
ما يحدث الآن هو إعادة إنتاج لذات السياسات القديمة، مع اختلاف في الأدوات المستخدمة. نتنياهو، الذي يواجه تهديدًا حقيقيًا لبقاء حكومته، يستخدم غزة كساحة معركة داخلية، حيث يزايد على خصومه في اليمين المتطرف، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، الذين يطالبون بفتح "أبواب الجحيم" على القطاع. هذا ليس صراعًا على الأمن، بل صراع على البقاء السياسي.
هذا النوع من السياسات يتجاوز مجرد الضغط التفاوضي إلى محاولة خنق غزة اقتصاديًا وإنسانيًا، في محاولة مستمرة لتحويل القطاع إلى ما يشبه "منطقة موت بطيء". ووسط هذا المشهد، فإن تجاهل المجتمع الدولي لهذا التجويع لا يعكس سوى تواطؤ صامت مع استراتيجية "إسرائيل" الرامية إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني وفرض حقائق جديدة على الأرض.
نتنياهو: سياسة الحافة الخطرة
لنفهم دوافع نتنياهو، يجب أن ننظر إلى الداخل "الإسرائيلي". منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يتعرض نتنياهو لانتقادات حادة بسبب فشل حكومته في منع الهجوم. والآن، يسعى إلى تحويل الأنظار عن هذا الفشل عبر تصعيد جديد في غزة.
سياسة الحافة الخطرة التي يتبناها نتنياهو، والتي تقوم على التهديد المتواصل باستئناف الحرب، ليست سوى محاولة لكسب الوقت. فهو يدرك أن اتفاق يناير/كانون الثاني، رغم عيوبه، يوفر فرصة لوقف الحرب واستعادة الأسرى "الإسرائيليين". لكن قبول هذا الاتفاق يعني الاعتراف بعدم تحقيق أهداف الحرب الرئيسية: نزع سلاح المقاومة وإنهاء حكم حماس. وهذا اعتراف لا يمكن لنتنياهو تحمله سياسيًا.
الولايات المتحدة: شريك في الجريمة؟
لا يمكن قراءة المشهد دون التوقف عند الموقف الأمريكي. إدارة دونالد ترامب، عبر مبعوثها للشرق الأوسط ستيفن ويتكوف، تلعب دور الوسيط المنحاز بشكل فج. تبنيها لمقترحات تتجاوز الاتفاق الأصلي ليس مجرد انحياز، بل هو مشاركة مباشرة في محاولات فرض أمر واقع جديد على غزة.
السياسة الأمريكية، التي تقوم على دعم غير مشروط لإسرائيل، تتجاهل بشكل مستمر البعد الإنساني للأزمة. الحديث عن المساعدات وكأنها امتياز وليس حقًا هو دليل آخر على ازدواجية المعايير.
مصر بين ضغوط "إسرائيلية" ومسؤوليات تاريخية
في ظل تصاعد الدعوات "الإسرائيلية" لتوطين سكان غزة في سيناء، تتعرض مصر لضغوط غير مسبوقة لقبول مشاريع التهجير القسري. تصريحات أفيغدور ليبرمان التي تدعو إلى فتح معبر رفح لاستيعاب سكان القطاع ليست فقط تهديدًا للسيادة المصرية، بل محاولة لفرض أمر واقع جديد يُعيد إنتاج نكبة 1948 بصيغة معدلة.
إن الاستجابة المصرية لهذه الضغوط ستُشكل اختبارًا حقيقيًا لقدرة القاهرة على الحفاظ على دورها التاريخي كوسيط محايد، وحامي للحقوق الفلسطينية. فرفض هذه المخططات ليس فقط دفاعًا عن السيادة، بل هو أيضًا موقف أخلاقي يُعيد تأكيد الالتزام المصري بالقضية الفلسطينية، في مواجهة محاولات تصفيتها.
حماس: ورقة الأسرى ومأزق التفاوض
بالنسبة لحماس، فإن الموقف معقد. التمسك بالاتفاق الحالي هو محاولة للحفاظ على الحد الأدنى من المكاسب، لكن استمرار "إسرائيل" في خرق الاتفاق يدفع الحركة نحو خيارات صعبة.
ورقة الأسرى "الإسرائيليين" تبقى أحد أقوى أدوات الضغط بيد المقاومة. لكن مع تعنت نتنياهو ومحاولته فرض شروط جديدة، فإن احتمالات استئناف الحرب تصبح أكثر واقعية.
المجتمع الدولي: صمت متواطئ
في ظل هذه الأوضاع، يبقى المجتمع الدولي شاهدًا صامتًا. البيانات الدبلوماسية التي تعبر عن "القلق" و"الدعوة إلى ضبط النفس" لا تترجم إلى أفعال حقيقية.
حتى الأصوات الأوروبية التي تحذر من "عواقب وخيمة" لوقف المساعدات تظل عاجزة عن اتخاذ مواقف أكثر حزمًا، ما يمنح "إسرائيل" مساحة أكبر للاستمرار في سياساتها العقابية.
السيناريوهات المحتملة
- استمرار التصعيد "الإسرائيلي": مع تمسك نتنياهو برفض الدخول في المرحلة الثانية من الاتفاق، يبدو أن احتمالات العودة إلى التصعيد العسكري واردة، خصوصًا في ظل الضغوط الداخلية التي يواجهها.
- ممارسة ضغوط على مصر: قد تشهد الفترة المقبلة تصعيدًا دبلوماسيًا تجاه مصر، مع تزايد الدعوات "الإسرائيلية" لفتح معبر رفح أمام حركة "الهجرة الطوعية"، ما يضع القاهرة في موقف معقد.
- تدويل الأزمة الإنسانية: استمرار منع المساعدات والضغط على سكان غزة قد يؤدي إلى تدخل دولي أكثر فاعلية، وهو ما تطالب به حركة حماس والسلطة الفلسطينية.
هل نحن أمام مرحلة جديدة من الصراع؟
ما نشهده اليوم هو لحظة فارقة. إصرار "إسرائيل" على فرض شروط جديدة يعني أن اتفاق وقف إطلاق النار بات على المحك. وفي ظل التعنت الإسرائيلي، وغياب ضغط دولي حقيقي، فإن احتمالات العودة إلى التصعيد العسكري تتزايد يومًا بعد يوم.
لكن الأهم من ذلك هو أن هذه الأزمة تكشف مرة أخرى عن الطبيعة الحقيقية للسياسة "الإسرائيلية"، التي تقوم على توظيف المعاناة الإنسانية لتحقيق مكاسب سياسية. وفي مواجهة ذلك، يبقى التحدي الأكبر هو قدرة الفلسطينيين والمجتمع الدولي على فرض التزامات الاتفاق ومنع استخدام التجويع كسلاح تفاوضي.
في النهاية، لا يمكننا فهم ما يحدث في غزة بعيدًا عن الصورة الأوسع: إنها ليست مجرد معركة على شروط اتفاق، بل هي صراع على الحق في الوجود والكرامة، في مواجهة مشروع استعماري مستمر لا يزال يرفض الاعتراف بإنسانية الفلسطينيين وحقوقهم الأساسية.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com