تمضي إسرائيل قدماً في خرق اتفاق وقف إطلاق النار مع قطاع غزة، حتى وصل الأمر إلى مرحلة النقاش الجدي حول الاستمرار بالمرحلة الثانية من عدمه. وهذا ما يجعل المشهد السياسي في المنطقة مفتوحًا على جميع الاحتمالات، خاصة بعد تأكيد قائد حركة انصار الله السيد عبد الملك الحوثي، أن العودة إلى التصعيد مرتبطة بمتابعة العدوان على غزة، كما الجهوزية لمواجهة أي اعتداء على سيادة اليمن.
تصريحات السيد الحوثي الأخيرة حول استعداد اليمن لإغلاق الممرات البحرية مقابل سواحله في حال عودة كيان الاحتلال إلى استهداف غزة أو استكمال مشروع تهجير الفلسطينيين تضع واشنطن وتل أبيب أمام موقف معقد. هذا التصعيد المحتمل ينطوي على تحديات استراتيجية لا يمكن تجاهلها.
إسرائيل: دور فاعل في التصعيد لكن من خلال استراتيجية أقل وضوحاً
كيان الاحتلال الذي يرى في صنعاء تهديدًا مباشرًا لأمنه، قد يجد نفسه أمام معضلة استراتيجية جديدة بعد وقف إطلاق النار في غزة. صحيح أن إسرائيل سبق وأن استهدفت مناطق في اليمن عبر ضربات جوية، وكان هذا في إطار الرد على ما تعتبره تهديدًا متزايدًا من جانب القوات اليمنية، ولكن اليوم، هناك حقيقة يجب أن تدركها تل أبيب: استراتيجيتها لم تؤتِ ثمارها.
فإسرائيل، التي كانت قد راهنت على تحالفات مع دول المنطقة لاحتواء "النفوذ الإيراني" في اليمن، تجد نفسها الآن أمام قوى إقليمية تتحدى هذا النفوذ بشكل مستمر. وإذا كانت قد اعتقدت أن قوتها العسكرية، بما في ذلك الضربات الدقيقة عبر الطائرات الحربية، قادرة على إضعاف صنعاء، فإن الواقع يشير إلى عكس ذلك: هناك صمود واضح في صفوف اليمنيين، بل وزيادة في قدراتهم العسكرية ونجاحهم في تقوية تحالفاتهم الإقليمية والدولية، بعد وفائهم بتعهداتهم بمساندة غزة حتى انتهاء الحرب واثبات قدرتهم على ذلك، نتيجة ما تعنيه القضية الفلسطينية إلى شعوب المنطقة ككل، وتأثيرها على أي مشروع استراتيجي يخص الشرق الأوسط أيضاً.
بالنسبة للولايات المتحدة، فقد وجدت نفسها في موقف أقل إقناعًا. فالتدخل العسكري المباشر في اليمن لم يعد خياراً متاحاً بنفس الطريقة التي كان عليها قبل سنوات. في الواقع، لا يمكن أن تكون عواقب التصعيد في اليمن أقل خطرًا من الاستهدافات اليمنية التي شهدها العالم خلال 9 سنوات مضت -لدول مجاورة له- أو خلال الحرب الاخيرة ضد إسرائيل، خاصة مع تنامي قوته الصاروخية وقدراتهم العسكرية.
التحدي الاستخباري: ساحة تهديد مستجدة
التحدي الاستخباري الذي يواجهه كل من إسرائيل والولايات المتحدة في اليمن يعكس بوضوح واقعاً مختلفاً عن العديد من دول المنطقة والعالم. فعلى عكس الدول التي تغرق في التكنولوجيا الحديثة، يعيش المجتمع اليمني في بيئة أكثر تحفّظاً، حيث لا يتوفر لديه الكثير من الموارد التكنولوجية التي تتيح اختراقه بسهولة.
الواقع أن اليمن لا يملك بنية تحتية متطورة كما هو الحال في دول الخليج أو حتى بعض الدول العربية الأخرى، ولا يتوفر لشعبه العديد من الأدوات التكنولوجية التي يمكن أن تسهل جمع المعلومات الاستخبارية أو التنصت عليها. الإنترنت في اليمن يعاني من بطء شديد، والكثير من المناطق النائية تفتقر إلى الوصول المستمر إلى الشبكة العنكبوتية، وهذا يحد من قدرة الأفراد على التواصل الإلكتروني المتقدم.
بالإضافة إلى ذلك، لا توجد سيطرة مركزية على التكنولوجيا أو الأنظمة الإلكترونية في اليمن كما هو الحال في العديد من الدول الحديثة، ما يجعل من الصعب على أي جهة استخبارية استخدام تقنيات متطورة لاختراق المجتمع. في المقابل، في دول مثل إسرائيل أو حتى بعض الدول العربية المجاورة، يتيح التحول الرقمي ووجود تقنيات متقدمة قدرات هائلة لاختراق الحياة اليومية للمواطنين، من الهواتف الذكية إلى الأنظمة الحكومية، ما يسهل على الاستخبارات جمع المعلومات أو تنفيذ عمليات التجسس.
لكن في اليمن، ومع وجود وسائل تواصل محدودة واستخدام متواضع للتكنولوجيا، يصبح التحدي الاستخباري أكبر. الحواجز التقنية التي تحول دون الوصول إلى المعلومات تزداد قوة، والأمر لا يتوقف عند قلة الموارد التكنولوجية بل يمتد إلى بيئة معقدة تقاوم عملية التجسس والمراقبة بشكل طبيعي. فالمجتمع اليمني بطبيعته ليس معتمدًا على الرفاهية التكنولوجية مثل مجتمعات أخرى، بل يركز في معيشته اليومية على تقاليد وأسلوب حياة بعيد عن هيمنة الأدوات التكنولوجية. مع الاشارة إلى أن الحرب التي فرضت على اليمن طيلة عقد من الزمن، دمرت أيضاً البنى التحتية بما في ذلك، الشبكة الكهربائية ومحطات ارسال الهواتف... كما أنه بيئة محصنة ضد مشاريع العمالة والتجنيد وهذا مثبت تاريخياً، ويضاف الى جملة التحديات التي تواجه الكيان.
هذه الطبيعة المجتمعية تجعل من اليمن ساحة صعبة ومقاومة للاختراق الاستخباري من قبل القوى الكبرى، مثل إسرائيل والولايات المتحدة، اللتين لطالما اعتمدتا على التكنولوجيا الحديثة في تنفيذ العديد من العمليات الاستخبارية.
الحصار الاقتصادي: صعوبة لا تعد سلاحاً كاسراً للتوازن
على الرغم من أن الحصار الاقتصادي المفروض على اليمن قد أحدث آثاراً كارثية على حياة اليمنيين، إلا أنه لا يمكن أن يُعتبر سلاحاً كاسراً للتوازن في الصراع. فاليمن، منذ قيامه، قد اعتاد على الظروف القاسية، ولم يعرف شعبه قط بالترف المعيشي. ويمكن الرجوع إلى ستينيات القرن الماضي كشاهد على العزلة الاقتصادية شبه التامة بعد الثورة في 1962، إلا أن الشعب اليمني بقي صامداً.
وربما من أبرز الشواهد التاريخية على هذا الصمود كان خلال الحرب الأهلية في السبعينيات والثمانينيات، حيث فرضت دول الخليج حصاراً على اليمن الديمقراطي، إلا أن الشعب اليمني صمد أمام ذلك الحصار، بل وواجه التحديات الاقتصادية عبر تعزيز مبدأ الاعتماد على الذات.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن المعادلة في اليمن أصبحت أكثر تعقيدًا بعد فشل التحالفات العسكرية في السنوات الماضية. حتى الآن، كان الضغط العسكري على انصار الله يعتمد على دعم تحالفات خليجية، في حين بدأ هذا السيناريو يظهر عيوبه.
لكن هل ستنخرط الدول العربية مجددًا في تحالف ضد صنعاء؟ قد لا يكون ذلك سهلاً، خاصة في ظل التجربة الفاشلة للتحالف العسكري ضد صنعاء، والذي أظهر عجزاً عن تحقيق الأهداف المرجوة. اضافة لعدم ائتمانهم على نوايا واشنطن اتجاههم في ظل مشروع التهجير الذي يقوده الرئيس الأميركي، والذي يقضي بتهجير الفلسطينيين وتوطينهم في كل من الاردن ومصر ودول عربية أخرى.