في المشهد القاتم الذي ترسمه آلة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، تبرز المجاعة اليوم كواحدة من أبشع أدوات القتل الجماعي المتعمد. حيث تحوّل التجويع إلى سياسة مدروسة لإبادة مجتمع بأكمله، أطفالاً ونساءً وشيوخاً. فمنذ أكتوبر الماضي، يعيش أكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة تحت حصار مزدوج: قصف متواصل لا يهدأ، وتجويع متعمّد تشارك فيه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ووزاراتها، بمنع إدخال الغذاء والدواء والوقود، حتى بات الطحين الذي يُهدر بالأطنان في البحار كل يوم عملة نادرة.
في مشاهد مؤلمة نشرتها وسائل الإعلام نقل سكان القطاع أن البعض باتوا يأكلون التراب ويغمسون الخبز في الماء فقط، إن وُجد، فيما يضطر آخرون لاستهلاك أوراق الأشجار وبقايا الطعام المنتهي الصلاحية. وفي شهادة إحدى الأمهات: "ابني يبكي كل ليلة من الجوع، وليس لدي ما أقدّمه له سوى ماء وملح".
أطفال غزة.. بين أكل الرمل والموت البطيء
المشاهد القادمة من شمال غزة تُظهِر حجم الكارثة بأبشع صورها. أطفال يتساقطون من الجوع، بعضهم يُنقل إلى المشافي التي لا تجد فيها شيئاً لتقدمه. تقارير ميدانية وثّقت حالات أكل للأعشاب والرمل والطين، وسط شحٍ كامل في حليب الأطفال ومستلزمات التغذية. وقد حذّرت منظمة "أطباء بلا حدود" من أن آلاف الأطفال في غزة أصبحوا عرضة للموت خلال أسابيع إن لم يُرفع الحصار فوراً.
كيف يُصنع الجوع في غزة؟
عملية التجويع لا تحدث بالصدفة، بل عبر آليات مدروسة:
حصار شامل ومطبق: منذ أكتوبر 2023، فرض الاحتلال حصاراً خانقاً على القطاع، منع خلاله دخول الغذاء، والدواء، والمياه، وحتى المساعدات الإنسانية. تقارير الأمم المتحدة تشير إلى أن 96% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، فيما يُمنع وصول المساعدات إلى مناطق الشمال التي تعيش الكارثة الأكبر.
استهداف البنية التحتية الغذائية: تم تدمير معظم المخابز، والمزارع، ومستودعات الغذاء. كما تم قصف عشرات الشاحنات التي حاولت الدخول، وبعضها كان يحمل شعارات منظمات دولية. في مايو الماضي، أفادت الأونروا أن الاحتلال أعاق 80% من قوافل الإغاثة.
منع الزراعة والصيد: منع الصيادون من دخول البحر، والمزارعون من الوصول إلى أراضيهم، ما أدى إلى شلل كامل في الإنتاج الغذائي المحلي.
رفع الأسعار حد الاستحالة: حتى إن وُجد الطعام، فإن أسعاره تفوق قدرة الغالبية العظمى من الناس. في بعض المناطق، ارتفع سعر الخبز 1000%.
من يحرّض على التجويع؟
لم يعد التجويع مجرد نتيجة لحالة الحرب، بل تحوّل إلى أداة مدروسة. مسؤولون إسرائيليون تحدثوا صراحة عن ضرورة استخدام "ضغط الجوع" لدفع حماس إلى الاستسلام. وزيرة إسرائيلية وصفت سابقاً سكان غزة بأنهم "جزء من منظومة الإرهاب"، مبررة بذلك تجويعهم. من جهة أخرى، فإن الدعم الأميركي المطلق للكيان، ورفضها تمرير قرارات ملزمة في مجلس الأمن لإدخال المساعدات، يُعد مساهمة مباشرة في صناعة المجاعة. وفي حين تطالب منظمات حقوقية بفتح تحقيقات في استخدام الجوع كسلاح حرب، تواصل واشنطن وغيرها من الدول تزويد "إسرائيل" بالسلاح والغطاء السياسي.
أين العالم من هذه الكارثة؟
رغم التحذيرات المتكررة من وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية التي عملت في غزة، فإن المجتمع الدولي يواصل الاكتفاء بالتنديد الشكلي. بل إن بعض الدول المشاركة في تمويل المساعدات الإنسانية (كالمملكة المتحدة وألمانيا) قلّصت مساهماتها في ظل حديث داخلي عن ضرورة "عدم دعم حماس بأي شكل من الأشكال". وهذا بدلاً من أن توقف مساعداتها المتجهة إلى الكيان البربري الذي يقتل بدم بارد.
وفي المحصلة، يُترك الغزيون لمصيرهم، وسط تجاهل تام لأبسط القوانين الدولية التي تحظر استخدام الحصار والتجويع كوسيلة للضغط العسكري أو السياسي.
كل دولة تملك القدرة على التحرك ولم تفعل، تُعتبر شريكة في الجريمة. فالصمت في وجه مجاعة مفتعلة ومعلنة، تُستخدم كسلاح إلى جانب القصف والقتل، ليس موقفاً محايداً بل تواطؤاً واضحاً. الدول التي تتذرع بالحياد، أو تختبئ خلف الحسابات السياسية، توفر غطاءً ضمنياً للاحتلال الإسرائيلي وتمنحه الوقت الكافي لإكمال جريمته. فحين يُمنع الغذاء والماء والدواء عن مليوني إنسان في غزة، وتُترك الأمهات لرؤية أطفالها يحتضرون، عندها يكون كل من يمتنع عن كسر الحصار أو الضغط لوقفه مشاركاً بشكل مباشر أو غير مباشر في هذه المجزرة.
الكاتب: غرفة التحرير