شكّلت جبهة لبنان الجنوبية مع الكيان الإسرائيلي، إسناداً فاعلاً وتكتيكياً ربط وحدة المسار بين مختلف فصائل المقاومة في غزة والضفة والعراق وسوريا وصولاً إلى اليمن، ليعلن بشكل واضح عن عمل مشترك فرضته استراتيجية وحدة الساحات التي سبق وأن أعلن عنها. ومن خلال هذا العنوان، نجحت الجبهة في إنتاج واقع استراتيجي وإقليمي نقيض لما يتوقعه الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وحليفها الإسرائيلي.
لقد نجحت المقاومة الإسلامية في لبنان في سياق المواجهة مع الكيان الإسرائيلي، في الحفاظ على توازن القوى وتوازن الردع، بل تحسينهما لمصلحته. وبالتأكيد، سيخدم ذلك مستقبل الوضع في لبنان وعلى الحدود. كما أدركت المقاومة أنّه من الضروري في هذه المرحلة تحقيق الضرر بالكيان ومنظومته الأمنية والعسكرية وإضعافها، لأن ذلك حتماً سيخدم المقاومة في الحرب الشاملة وربما في المواجهة الأخيرة.
لقد شكّلت جبهة لبنان ترجمة عملية للتكامل العملياتي لمحور المقاومة ودعماً لفلسطين وإسناداً للمقاومة في غزة. فقد أثبتت جبهة المقاومة الذكية أنها تتعامل مع الواقع وفق قواعد عسكرية وأمنية مدروسة ودقيقة، وذلك من خلال:
- استهداف أبراج المراقبة والرادارات أولاً: حاول البعض التقليل من أهمية الإصابات لمعدات المراقبة والرادارات في الأيام الأولى وتوصيفها كـ"جبهة حرب ضد أبراج الاتصالات". كانت الخطوات الأولى في التركيز على هذه المعدات، بالإضافة إلى خساراتها المادية، تزيد في الارتباك الإسرائيلي في تفسير هذا الفعل. لكن التكتيك العسكري يقول بأن البدء بهذا النوع من الأهداف، يعني التهيئة لإغماض عيون المراقبة وإطفائها، تمهيداً لخطوة ما (قد تكون اجتياحا بريا مثلاً)، الأمر الذي أبقى حالة التأهب الإسرائيلي في الشمال في أعلى حالاتها، وهذا يعني، بطبيعة الحال، تخفيف الضغط عن غزة. وبسبب عدم قدرة الإسرائيلي على ترك هذه المعدات معطَّلة، فترةً طويلة، أصبح فريق الصيانة لها هدفاً جديداً للمقاومة في لبنان.
- هذه العمليات العسكرية المعلنة كانت دائماً دعماً للشعب الفلسطيني الصامد، وإسناداً للمقاومة في غزة وهو سبب أساسي ومركزي دائماً، يضاف إلى ذلك سبب راهن وطارئ وهو الردّ على بعض الاستهدافات التي يقوم بها الاحتلال في حق المدنيين والصحفيين والسيارات المدنية وسيارات الهيئة الصحية والبيوت المدنية في قرى الجنوب.
- العمليات التي نفذتها المقاومة وتنفذها باستمرار استخدمت خلالها أسلحة وموارد بشرية كافية لتحقيق هدف، وحققته، ويذهب الاعتقاد إلى أنها الأعلى في تاريخ المواجهة مع الكيان الإسرائيلي.
- التصعيد التدريجي والتراكم: استخدام آليات العمل الذكي، كان الأساس في تحقيق زخم النتائج الجيدة للمقاومة، والتي وثّقت النتائج من خلال ما تكبده الاحتلال من خسائر في الجنود والدبابات والمراكز (والذي يتكتم عن إعلانه بشكل كبير). وتضاف إلى ذلك النتائج المعنوية، حيث تشهد جبهة الشمال هجرة عكسية مع إعلان عن عدم عودة المستوطنين إلى مغتصبات الشمال بسبب ضربات حزب الله.
يبدو مستوى الإسناد العالي في الجبهة اللبنانية، مؤثراً وفاعلاً بشكل كبير، ففي البعد الإقليمي، شكّلت جبهة لبنان، إلى جانب جبهات الإسناد الأخرى، ترجمة عملية لمحور المقاومة كقوة إقليمية صاعدة في مواجهة الهيمنة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. فالديناميات المحلية والإقليمية التي أطلقها طوفان الأقصى، وبشكل رئيسي تلك التي تمثلت بجبهات الإسناد المتعددة ومن ضمنها لبنان، تشكل محطة مفصلية وتأسيسية في رسم ملامح مستقبل تحكمه معادلات قوة تقتضيها تحديات وفرص ومخاطر المرحلة المقبلة، وستكون لها أيضاً انعكاسات محلية على كل ساحات محور المقاومة.
في السياق نفسه، من أهم تداعيات جبهة لبنان، إلى جانب جبهات الإسناد الأخرى، احتواء وإحباط مفاعيل خطط الكيان الإسرائيلي ما بعد طوفان الأقصى، التي يحاول الأميركي والإسرائيلي التهويل بها لابتزاز شعوب المنطقة ودولها. في البعد اللبناني أيضاً، أعادت المقاومة تثبيت مكانتها كقوة ردع ودفاع عن لبنان، من أبرز معالمها التي تجلّى بعض منها في هذه المحطة التاريخية، أنها تتمتع بتصميم لا تردّد فيه في مواجهة الكيان الإسرائيلي والمشروع الأمريكي في المنطقة، دفاعاً عن أمن لبنان ومستقبله، ودعماً لفلسطين وقضاياها... إضافة إلى قدرتها العملياتية على خوض وإدارة حرب مضبوطة مع جيش الاحتلال ومن موقع الندّية ووفق تكتيكات وظروف غير مسبوقة في أي مرحلة من تاريخ الصراع.
لو راجعنا مستوى التدخل والإسناد وسياقه الزمني منذ 8 من أكتوبر 2023 سندرك تماماً أننا أمام جبهة إسناد فاعلة وذكية "ووفيّة" قادرة على قلب المعادلات ورسم استراتيجيات مواجهة جديدة، ربما يدرك الإسرائيلي البعض منها ولكنه حتماً غير قادر على إضعافها أو التقليل من مداها.