في جامعة ستانفورد، أراد مجموعة من الباحثين التحقيق في حدود الإقناع السياسي للذكاء الاصطناعي، من خلال اختبار قدرته على التأثير على البشر الحقيقيين، في بعض أهم القضايا الاجتماعية والمثيرة للجدل. ثمّ قامت عينة مؤلفة من آلاف الأشخاص من قراءة مجموعة من النصوص تمّ تعيينها بشكل عشوائي، منها ما كتبها الذكاء الاصطناعي، ومنها تمّ صياغتها من قبل البشر. وقبل القراءة، طُلب من المشاركين إعلان مواقفهم بشأن القضايا التي كتبت لها الحجج قبل القراءة وبعدها. ثم قام فريق البحث بقياس مدى تأثير الرسائل على القراء الذين لم يعلموا مصدر الرسائل، وتقييم المؤلفين الأكثر إقناعًا ولماذا. وكانت النتيجة أنّ الرسائل التي ابتكرها الذكاء الاصطناعي "مقنعة باستمرار للقراء البشريين". وأنها مقنعة مثل الرسائل التي ينشئها الإنسان في جميع الموضوعات. وتمّ تصنيفها على أنها أكثر واقعية ومنطقية، وأقلّ تحيّزًا، وأقل اعتمادًا على سرد القصص كأسلوب مقنع.
هل يتجاوز القدرات البشرية؟
من المتوقع من الذكاء الاصطناعي أن يتجاوز القدرات البشرية في مجالات تعزيز الاستثمارات المالية، وأثبتت أنظمة التشخيص الذكية أنها أكثر دقة من الأطباء في تشخيص الأمراض، لكن ماذا عن الحكومات؟ وماذا سيكون تأثير الذكاء الصناعي على طبيعة الحكومة وكيف تضع سياساتها في أي بلد كان؟ بل كيف تمّ بالفعل تشكيل السياسة وتعطيلها من خلال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي؟ وإذا كانت الآلات ستكون جزءًا من نظامنا السياسي، فهل يمكنها اتخاذ قرارات أخلاقية؟ وإلى أي مدى يمكن لهذه الآلات أن تدرك مجموعة واسعة من التخصصات التي يدخل فيها صنع القرار السياسي بما في ذلك الفلسفة الأخلاقية والقيم وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع؟ وهل سنصل إلى مرحلة يتم فيها القضاء على البشر في صنع القرار السياسي؟ وهل يجب رفض صنع القرار البشري واستبداله باتخاذ القرارات القائمة على البيانات، والمدعومة بالذكاء الاصطناعي؟ ربما نعم، أو قد تكون الإجابة لا.
لقد رأينا بالفعل تشريعات صاغها الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، وإن كان ذلك تحت إشراف المستخدمين البشريين وقدمه المشرعون البشريون. بعد تقديم بعض الأمثلة المبكرة لمشاريع القوانين التي كتبها الذكاء الاصطناعي في ماساتشوستس ومجلس النواب الأمريكي، كان لدى العديد من الهيئات التشريعية الرئيسية "أول مشروع قانون كتبه الذكاء الاصطناعي" أو "استخدم ChatGPT لتوليد ملاحظات اللجنة".
العديد من مشاريع القوانين والخطب هذه عُدَّت حيلة أكثر من كونها جادة، وقد تلقت انتقادات أكثر من النظر فيها. فهي قصيرة، أو تحتوي على مستويات تافهة من جوهر السياسة، أو تم تحريرها أو توجيهها بشكل كبير من قبل المشرعين البشريين (من خلال مطالبات محددة للغاية لأدوات الذكاء الاصطناعي القائمة على نموذج اللغة الكبيرة مثل ChatGPT).
لكنّ كل ذلك قابل للتطوير!
نعمة ونقمة
أول ما برز استخدام الذكاء الاصطناعي في السياسة، كان في الحملات الانتخابية الأمريكية التي قدّمت سمعة سيئة بسبب الأخبار المزيفة والمعلومات الخاطئة والتحيّز الخوارزمي. وهو الأمر الذي طرح سؤال الديموقراطية في أروقة البحث. فبدأت منصات التواصل الاجتماعي في طرح سياسات جديدة لمعالجة محتوى "التزييف العميق"، حظرت Meta التزييف العميق على منصاتها لكنها لا تزال ثابتة في سياستها المتمثلة في عدم التحقق من صحة السياسيين. لكنها منحازة لقيم الغرب وحملاته السياسية وتضليل الروايات الإعلامية الغربية.
إلى ذلك، تبرز مشكلة الاستغناء عن اليد العاملة، على الرغم من أن ثمة دراسات، تحدثت عن فرص عمل وفيرة يمكن أن تنتج عن الذكاء الاصطناعي (تسرد McKinsey أنّ حوالي 400 حالة استخدام تمثل 6 تريليونات دولار في 19 صناعة ستزيد فيها الذكاء الاصطناعي العمل البشري). ذلك أن خلق الثروة العالمية سيؤدي بطبيعة الحال إلى خلق فرص العمل. لكن من المرجح أن يضطر العمال إلى تغيير وظائفهم في كثير من الأحيان حيث يتولى الذكاء الاصطناعي العمل الروتيني، مما يزيد من مقدار فترات التحول في مكان العمل، مما يتسبب في أصوات من النقابات العمالية إلى مطالبة صانعي السياسات بتبسيط وتوسيع الرفاهية من أجل ضمان انتقال سلس للوظائف. خاصة إذا فشلت تنبؤات الاقتصاديين، ودمر الذكاء الاصطناعي وظائف أكثر مما خلق، حيث ذكر بعض الاقتصاديين والمستقبليين مثل يوفال نوح هراري أنه لا يوجد قانون يضمن أن الوضع الاقتصادي سيتطوّر بنفس الطريقة التي تطور بها في نهاية القرن 19.
في المقابل، رأينا العديد من السياسيين يدرسون وجهات نظر الناس من خلال استخدام التقنيات، ثم تعديل وجهات نظرهم وفقًا لكسب المزيد من الناخبين أو المؤيدين. حملة باراك أوباما الرئاسية لعام 2012، ناريندرا مودي في عام 2014، دونالد ترامب في عام 2016 كلها أمثلة رئيسية على كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة ناجحة في السياسة.
والأهم، يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي أحد أقوى الأدوات لصانعي السياسات لمتابعة نهج سياسي قائم على البيانات، مع التعلم الآلي وتقنيات التحليلات التنبؤية. وسيوفر صورة دقيقة لما تحتاجه البلاد وكيف يمكن حل مشاكلها. مثلًا، لنفترض أنه مع الذكاء الاصطناعي تمكّنّا من التنبؤ ببعض نقاط الضعف في الاقتصاد التي يمكن أن تؤدي إلى المزيد من البطالة، فيمكننا حلّها مسبقًا، ضمن قدرة هائلة لتحليل كميات كبيرة من البيانات في غضون ثوانٍ قليلة، توفّر على صانعي السياسة مجموعات المستشارين الذين يحتاجون لأيام على الأقل لإنجازها، وتقليل تكاليف الحملات السياسية. كما يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين إنتاجية النظام أثناء تحليل الثغرات في النظام.
الذكاء الاصطناعي يحدد من يقود ومن يتخلّف
سياسيًا، من المرجح أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تغيير الطيف السياسي بأكمله. وتتفوق الرسائل السياسية التي يتم إنشاؤها الذكاء الاصطناعي على توصيات مستشاري الحملة في اختبار استطلاعات الرأي. لذلك، تتطلب الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في السنوات المقبلة اتخاذ قرارات سياسية ذكية الآن. إذ يخلق الذكاء الاصطناعي الثروة العالمية وفرص العمل، ويجعل الحكومة أكثر كفاءة، وتمكين الصناعة من القيام بالمزيد بموارد أقل، وتعزيز التنمية، ومكافحة الأوبئة، وحماية البيئة. لكن من نتائجه أيضًا أنّ عددًا قليلًا من البلدان والأفراد سيستولون على الجائزة. بينما يتخلف الباقون عن الركب. وخوارزميات البحث عن الربح التي تغزو الخصوصية، وتعطل الديمقراطية وتتوحش على الكوكب. الذكاء الاصطناعي هو جائزة عملاقة! ومن تخلّف عنها لن يبلغ الثورة الصناعية الرابعة.