قضية النازحين السوريين، من أهم الموضوعات التي ناقشها الإعلام اللبناني خلال الأشهر الماضية، واليوم ومع زيارة وزير المهجرين اللبناني، عصام شرف الدين، تخلل النقاش جملة مواضيع منها: الأزمة التي يخلقها النزوح السوري في لبنان، والمنافسة الحادة التي يتسبب بها العامل السوري، وموقف الدولة السورية من هذه العودة. العودة الميمونة، التي تصبو إليها العديد من الجهات اللبنانية وتعارضها اخرى تضامناً مع القرار الدولي في الولايات المتحدة وأوروبا، لها علاقة جدية بإعادة ترتيب القوى في المنطقة ولبنان بما يتناسب والمصلحة الأميركية والإسرائيلية بشكل أكثر تحديدا، وتتركز في نقاط عديدة أبرزها: النازح أولاً والدولة السورية ثانياً وتقصير الدولة اللبنانية ثالثاً.
يأمل البلدان بعد زيارة الوزير شرف الدين والوفد الذي ذهب معه أن تكون هناك خطوات فعلية، وأهم ما فيها رسم خارطة طريق لترتيب عودة النازحين السوريين، إلى بلادهم، فالزيارات الرسمية والمباحثات دون خارطة الطريق لا يمكن ان تؤدي الى نتائج حقيقية في ملف النازحين. والأمر له علاقة بإرادة الدولة السورية بكل تأكيد، والتي يشكك البعض في صدق نواياها، مع العلم ان من يضع العراقيل الحقيقة في وجه عودة النازحين هي المؤسسات الدولية "الحقوقية" و"الإنسانية" التي تعمل على هذه الملفات في مناطق النزوح خارج سوريا خدمة لأهداف مشغليها. ففي كل مرة يحاول فيها البلدان البدء بتنفيذ الخطوات العملية تبدأ رسائل التخويف والتشكيك بأن الدولة السورية ستقوم بمعاقبة العائدين إلى بلادهم وزجهم في السجون. وتلخيص موقف الدولة السورية بسؤالين ساذجين: هل تريد الدولة السورية عودة مواطنيها؟ أم أنها تمانع في عودتهم؟
عرض الأمر بهذا الشكل يعد سذاجة! لأن الدولة السورية لم تقف يوماً حائلاً أمام عودة أيّ من المواطنين السوريين من لبنان أو غير لبنان. بل أن هناك العديد من المواطنين السوريين المتواجدين في لبنان والعالم يدخلون سوريا ويخرجون منها دون ان يمارس على أحدهم أية ضغوط. ولكن! في بعض الأحيان قد يتعرض البعض لتحقيقات ومساءلات تتعلق بالأوضاع الأمنية، وهناك البعض الآخر الذين بحقهم أحكام جرمية يتم إيقافهم على الحدود، وهذه إجراءات إعتيادية تقوم بها حتى الدول "الديمقراطية" حول العالم، حيث تنشر صور المطلوبين على المراكز الحدودية وفي المطارات دون أن يتهمها أحد بكم الحريات. ولا يخفى على أحد الدور الذي لعبه البعض تحت مسمى المعارضة في التعامل مع المخابرات الأجنبية، والتي أدخلت العبوات الناسفة إلى مختلف المدن السورية واللبنانية وقامت بتنفيذ العمليات الإرهابية وقتلت خلال الحرب ما يقرب من مئتي ألف سوري، وهؤلاء لن يسمح بالتساهل معهم.
خلال الشهرين الماضيين، انتشرت أحاديث سخيفة أخرى حول إذا ما إذا كان "النظام" سيسامح أم لن يسامح. كلام ساذج، يراد من خلاله تصوير النظام في سوريا وكأنه رجل يتصرف من خلال مزاجاته المتفلتة، وكأنه ليس لدى أصحاب الكلام القدرة على الفهم أن سوريا دولة فيها أنظمة متجذرة في أروقة مكاتب الدولة، وبالتالي فالنظام فيها يمثل نظاماً قانونياً قائماً منذ قيام الدولة، وأن القوانين السورية موضوعة لترعى شؤون مواطنيها ولتحميهم وكذلك لتحاسب المجرمين والقتلة والسارقين والمتورطين بالفساد والمتعاملين مع الخارج ضد الدولة، أي الخونة. تماماً كما ترعى كندا أو الولايات المتحدة أو أوروبا شؤون مواطنيها وتمنع دخول الإرهابيين حتى من ذوي الجنسيات الأميركية أو الأوروبية، ويتم توقيفهم إذا ما كانت هناك شكوك بتورطهم بعمليات قتل أو نهب أو سرقة والتحقيق معهم؟ فلماذا يطلب من الدولة السورية إدخال هؤلاء والتعامل معهم وكأنهم من جنس الملائكة؟
ومن اللافت أن العمل الدؤوب المستمر منذ بداية التحركات المدعومة أميركياً واسرائيلياً في سوريا من اجل شيطنة الدولة السورية والرئيس الأسد وكأن الشعب السوري الذي شارك بالانتخابات الرئاسة من دول العالم ومن لبنان بالذات لا حول لهم ولا قوة. وعند سبر التاريخ فسنجد أن الولايات المتحدة الأميركية عملت وماتزال تعمل على شيطنة الأنظمة المناوئة لها: كالرئيس الراحل كاسترو والنظام في كوبا، والرئيس الراحل تشافيز في فنزويلا، وموراليس في بوليفيا.
شيطنة النظام في سوريا والرئيس بشار الأسد هدفها إظهار ان الأزمة تكمن في شخصه، مع العلم أن آلاف السوريين قد عادوا دون أن يمسهم أحد، ولم يعد حتى اليوم عشرات الالآف لسبب بسيط. معظم السوريين الذين جاؤوا إلى لبنان هم من مناطق شمال شرق سوريا، المحتلة من قبل ميليشيات قسد الكردية، والتي تمارس أعمالاً عدائية ضد السوريين من العرب من أجل تهجيرهم من قراهم ومدنهم. والقسم الآخر من محافظة إدلب المحتلة من قبل جماعات داعش وغيرها، والتي تنتمي لجيش أحرار الشام المنبثق عن جبهة النصرة، والمنطقة ماتزال محتلة بمن قبل الإرهابيين المدعومين من الدولة التركية. والبعض أمهاتهم لبنانيات ومن حقهم الإقامة والعمل في لبنان بحكم القانون، وهناك البعض الذين يخشون تأدية الخدمة العسكرية، ويبقون في لبنان لفترة محددة قبل أن يكونوا قادرين على العودة من أجل دفع البدل والإعفاء من الخدمة بحسب القانون السوري. وتصل قيمة البدل إلى حدود 10 آلاف دولار أمريكي.
وإذا ما أردنا قياس موقف الدولة السورية من عودة أبنائها فمن المناسب ان نعود لما قامت به الدولة من إجراءات خلال عملية تحرير الغوطة الشرقية في العام 2018. فمن المعلوم، أن هذه المناطق كانت معزولة بشكل تام عن باقي أجزاء الدولة السورية لمدة خمس سنوات تقريباً، وأن المواطنين الذين حجزهم الإرهابيون لم يكونوا قادرين على التواصل مع دوائر الدولة من أجل إجراء أي نوع من المعاملات المتعلقة بالأحوال الشخصية والمدنية والطبية والتي تتعلق بالزواج والطلاق وتسجيل الأولاد الذين ولدوا خلال فترة احتلال الإرهابيين للغوطة ومنع جميع انواع الرعاية الطبية، وحتى أن هناك شباباً قد بلغوا سن التجنيد ولم تعالج قضاياهم.
ما فعلته الدولة السورية خلال مرحلة القتال والتحرير ومنذ اللحظة التي استطاعت فيها تأمين ممرات آمنة للمواطنين الخارجين من مناطق القتال هو التالي: في البداية حاولت الدولة إخراج المسلحين بالتفاوض وذلك حفاظاً على المنشآت والبيوت حتى لا يطالها التدمير. ولكن عندما فشلت المفاوضات وتم تأمين الممرات الآمنة، كانت تنتظر المواطنين الهاربين من القصف، في مراكز متنقلة استقبلتهم وأمنت لهم الطعام والشراب وأماكن للإيواء حتى يتم ترتيب أوضاعهم. وتضمن ترتيب الأوضاع مراكز ضمّت موظفي الدولة وحقوقيين وأطباء ومراكز صحية، حيث قام هؤلاء بتسجيل أسماء الناجين، وتسجيل الأطفال واستصدار شهادات ولادة وإخراج لهم وتسجيلهم، وبعد ذلك تم تقييم الواقع الدراسي لهؤلاء الأولاد وتوزيعهم على صفوف لبدء عامهم الدراسي. وأما الشباب الذين تخلفوا عن الخدمة العسكرية فقد تمت تسوية أوضاعهم ومنحوا فترة ستة أشهر سماح من أجل تسوية أوضاعهم والتقدم للإلتحاق بالخدمة العسكرية. وهذا ما حدث تماماً حين عودة مجموعات كبيرة من النازحين خلال السنوات الماضية، وانتظرتهم المراكز المتنقلة على الحدود.
ثمة ابتزاز يمارس في كل مرة يطرح فيها ملف النازحين السوريين، وتعود الولايات المتحدة للحديث عن القرار 2254، والذي تريد من خلاله التخلص من رأس الدولة في سوريا وجعلها دولة ممزقة ذات نظام برلماني محكومة بتآلفات الطوائف تماماً كما يحدث في العراق، وفي لبنان. الإبتزاز لا يطال الدولة السورية فقط، بل هو موجه ضد الدولة اللبنانية أيضاً، التي قد تطالها العقوبات عليها. هذا الإبتزاز ليس بالجديد وهو الذي أوقف المحادثات ما بين الدولتين السورية واللبنانية في مواقف عدة ومنها زيارة الوزير شرف الدين لسوريا في آب من العام الماضي، والتي توقفت بسبب التدخلات الأميركية والغربية. فهل ستعود هذه التدخلات لتوقف المحادثات ما بين البلدين؟ وهل ستتخذ الحكومة اللبنانية هذه المرة قرارات جريئة في هذا الملف؟
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU