الأسير مرداوي من سجون الاحتلال لقادة المحور: فلسطين بوابة عبورنا نحو الوجود الحضاري

وصلتنا رسالة خاصة من الأسير القائد ثابت مرداوي من داخل سجن الاحتلال الاسرائيلي مخاطباً فيها قادة محور المقاومة، تحمل معان عميقة وقوية، وهو من أبرز قيادات السرايا في جنين خلال الانتفاضة الثانية2002 الى جانب الشهيد القائد محمود طوالبة، وقد تم اعتقاله بعد معركة جنين مع باقي المجاهدين، وحكم ب21 مؤبد و40 سنة.

نص رسالة الأسير ثابت مردواي

العديد من الأيام، فصلت بين معرفتي بتوجهي لجمعكم الكريم هذا بكلمة وبين شروعي بكتابتها. وبين دفتي هذه الأيام، حصلت لنا ومعنا، حيث نرقد تحت الزمان على أكف القدر، أحداث كثيرة:

منها ترتيب أوضاعنا التنظيمية والاعتقادية بعد نقلنا إلى المعتقل الذي افتتح مؤخراً، وتحصيننا بخطوات نضالية لمواجهة إجراءات مصلحة السجون الصهيونية ضدنا، وفيها استشهد يوسف شقيق بركات، ودخل والد مهدي في غيبوبة، ولا يزال في المشفى بين الحياة والموت.

ومهدي وبركات ممن نقتسم وإياهم زمن ذات الزنزانة وضيق مكانها، وفيها رأيت أبي متكئاً على أخي وعصا، جاء لزيارتي بعد انقطاع لأكثر من ستة أعوام، وهو الذي تركته عند اعتقالي بكامل صحته واستشاطات غضبه، وخرجت فيها إلى باحة المعتقل عشرات المرات، وطالعت كتابين، وقرأت ما تيسر عن الاتفاق الإيراني السعودي، وتابعت سطور تواريخ الجماعات اليهودية في تشظي هوية اللاممكن في الكيان المستحيل؛ وبقي في وقتي هذا متسعاً لأصاب في الانفلونزا مرتين وحتى لأتابع من على شاشة التلفزيون الفلسطيني الرسمي المسموح لنا بمشاهدته في المعتقل الصهيوني، برنامجاً عن الجدل المحتدم بين القائلين بكروية الأرض وبين أولئك المصرين على أنها مسطحة...!

 وبقيت طيلة هذه الفترة، برغم أحداثها، مشغولاً بسؤال هذه الكلمة. ليس حسرة.. وإنما كيف أقول لكم إن انبعاث أمة.. ومصير أمة.. ومشهدية الأمة الوحيدة المؤتمنة والقادرة على إعادة الانسجام والتناغم في طبقات الوجود، أمانة بين أيدي اجتماعكم، الأمر الذي يجعلني أعترف بين أيديكم، أني أشفق علينا من وجوب كثرة الدعاء لكم؛ وعليكم مشفق من ثقل العبء الملقى على كاهلكم. ولعل هذا ما يحتم علي في هذه الفرصة، تذكيركم بشيء عن القضية التي لأجلها تجتمعون..

أيها السادة

إن واحدة من أظهر حقائق تواريخ الاجتماع البشري، وأكثرها فيها شيوعاً واشغالاً للعقول والأذهان والسيوف، وأكثرها فيها شيوعا الانزياحات. فكانت قد بدأت في السلوك، ثم تبعتها بحكم الضرورة وطبيعة الأشياء انزياحات في التصورات والمعاني. أو كان العكس هو الذي حصل.

ومع الزمن وتطاول الأمد تبدو الانزياحات وكأنها الأصل في الأشياء والمفاهيم والمعاني والسلوك. وتكون النتيجة عندها وصول الأحوال والأوضاع إلى الحد الذي فيه قال تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" صدق الله العظيم.

رغم كميات الخوف المنبعث في الفضاء الذي ترسمه هذه الآية الكريمة، إلا أنها تسير وتوجه نحو نافذة من أمل وهامش من عمل من أجل الواجب الممكن فيه "لعلهم يرجعون"، والذي يشترط حكماً تشكيل مساحة وعي جديد بين ما هو قائم وبين ما يجب أن يكون، ثم لتأخذ هذه المساحة من الوعي على عاتقها مهمة تصويب الانزياحات وإعادة المعاني إلى هياكل اللغة والمفردات.

 المسألة التي تختصر عملية تخلق الإدراك وولادته باستمرار كشرط لحركة العمل في المواجهة الدائمة مع واقع الانزياحات. ومن كمال رحمته سبحانه وتعالى إعداده أنه يمن عليهم بقضايا تعينهم على تشكيل مساحة وعي تقوم بدور الناظم الضابط بمسيرة "لعلهم يرجعون" بكل اشتراطها وتفاعلها.. صحيح أن هذه القضايا تقول في ظاهرها نتيجة الانزياحات وثمنها المدفوع دماً وألماً، وتخلفاً، واضطهاداً، ومهانة. إلا أنها في الجوهر تمثل أداة الرجوع وميدانه، ومعيار ضبط التصورات والمفاهيم، وميزان تقويم الأداء والعمل.

وعياً بهذا المعنى نعمة تستحق الشكر وكل ثمن مدفوع لأجلها. كما أنها وبمقدار الاقتراب منها والانتماء إليها يتحدد منسوب المعنى والقيمة في حياة العباد ووجودهم.

وفلسطين المأساة أيها السادة.. ليست نتيجة لاختلال موازين قوى أو جراء خسارة حرب ما..كهذه أعراض.. وإنما هي نتيجة انزياحات تراكمت عبر مئات السنين وما زالت.. أفسدت فيها أركان المفاهيم والتصورات والاجتماع والسياسة وما ينشأ عنها وما يترتب عليها. وضربت تصاميم دنيتنا المعرفية حتى لم نعد نتفق على معنى بنص أو دلالة لمفردة..

إلا أن فلسطين القضية في المقابل، وبما لها من خصائص ومكانة ودلالة في فهمنا الديني وفي قراءتنا للتاريخ والواقع والمستقبل، لتؤكد أنها هي الإطار الذي به ومن خلاله يجب أن تتشكل مساحة وعينا المنشود، بكل تفاعلاتها المفاهيمية والسلوكية، وأن الوعي المؤسس على مفهمة فلسطين هو وحده القادر ليس فقط على كشف انزياحات الحاضر بكل ألوانها وتفرعاتها، أو تلك التي حصلت عبر مئات من السنين خلت، وإنما أيضاً ضبط ايقاع حركة الأمة بمئات سنين قادمة، لا بل إلى قيام الساعة.

أيها السادة

إذا كانت الامم والجماعات تحتاج حكما إلى قضايا مؤسسة وجامعة من أجل الوجود وضمان الاستمرارية وتحديد فاعليته وضبط حركته.. وإلى رواجع الوعي التام والوجود وعلمه الحركية، فإن فلسطين هي هذه القضية وهي بوابة عبورنا نحو الوجود الحضاري الفاعل الشاهد كأمة، وهي رافعة وعينا واوتاد إدراكنا.

هذه هي فلسطين التي نفهم، وهذا هو معنى القدس عندنا، وفيه ننادي فلسطين تحديداً؟

هذا هو العبء الملقى على كاهلكم أيها السادة في اجتماعكم يوم قدسكم، أن تنشروا هذا الفهم بين المسلمين والناس أجمعين، وأن تجعلوا فلسطين رافعة الوعي المسلم والانساني، وأن تضبطوا بمعيارها حركة وعي أمتكم، وأن تحاكموا بها وعليها التاريخ والواقع، والدول والعواصم، كالجماعات والمذاهب، كالأذكار والمواقف..

وأن تقيسوا بميزانها تمام التدين وسلامة اللغة واستقامة المعاني والدلالات. واسمحوا لي أن أدّعي بين أيديكم ان هذا الفهم هو الوحيد الذي يمكن أن يرتقي إلى مستوى فلسطين القضية والمعنى، وهو الوحيد الذي يجب أن يكون عليه كل مشروع أو برنامج عمل لهذه الأمة. وهو وحده الكفيل بتحرير القدس وفلسطين. التحرير الذي سيكون معناه أكثر بكثير وأبعد من استعادة بقعة جغرافية إلى استعادة أمتنا لحياتها ووجودها الحضاري، وتصحيح مسار تاريخ طويل من الانزياحات، وأنه يعني عودة مجرى التاريخ لنهر يرضى عنه الله، وألا يبقى حيث تريد الشياطين.

ولا أظن، أن الإمام الخميني، صاحب الفكرة، إلا وقصد هذا الكهل وله سعى وعمل، فجزاه الله عنا وعن فلسطين والقدس أفضل الأجر والثواب وتغمده بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته.

أعانكم الله ووفقكم لما فيه خير القدس والأمة.

وكل عام والقدس راضية عنا وعنكم. وتقبل الله منا ومنكم الطاعات وحسن العمل والانتماء.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسير ثابت مرداوي.

من داخل سجون الاحتلال.