في الماضي كما في الحاضر، تعتمد الجيوش على الاستخبارات لمعرفة الإمكانيات المتاحة لدى العدو قبل الخوض في غمار أي حرب. وفي حال تورط جيش ما في حرب ما، فكان يراقب الأسلحة التي يستخدمها العدو: كم هو حجم المنجنيق، وما هي المفاجأة الجديدة -التقنية- الابتكار الجديد، الذي سيتم تكييفه مع الحرب. ثمة تقليد دولي قديم وعريق على قوة الإبداع والابتكار التي تطورت من العصر الحجري مرورًا بالبرونزي إلى التكنولوجيا الفائقة والذكاء الصناعي. الواقع أنّ هذا التطور، في هذا العصر من تقنية ما قبل الجيل الخامس بقليل، لم يعد تاجر النفط، ولا مالك الذهب، من له الكلمة العليا في العلاقات الدولية، إنه مالك التقنية الأحدث، هو من يملك العالم.
الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية
تعود العلاقة بين الابتكار التكنولوجي والهيمنة العالمية إلى قرون مضت، من البنادق التي استخدمها الفاتح فرانسيسكو بيزارو لهزيمة إمبراطورية الإنكا إلى القوارب البخارية التي قادها العميد البحري ماثيو بيري لفرض فتح اليابان. واليوم غدت التكنولوجيا أساسًا للقوة الناعمة والصلبة. تزيد أنظمة الأسلحة عالية التقنية من القوة العسكرية، وتوفر المنصات الجديدة والمعايير التي تحكمها نفوذًا اقتصاديا قادر على الإخضاع والإكراه، مثل تقنيات أنظمة التحويل المالي العالمية وسيطرتها، بالإضافة إلى تجارة الأسلحة. أسبح بإمكان الدولة التي تملك الترسانات العسكرية أن تقيم حروبًا بالوكالة، أو أن تتحكم بنتائج حروب ليست حروبها. أما فيما يتعلّق بنفوذ اتصالي، فإن من يملك التكنولوجيا الاتصالية أيضًا قادر على التحكم والتجسس والتحريض وصولًا إلى قلب الحكومات.
إلى ذلك، تعزز التكنولوجيا القوة الناعمة لأي بلد. قامت هوليوود وشركات التكنولوجيا مثل Netflix و YouTube ببناء مجموعة من المحتوى لقاعدة مستهلكين عالمية متزايدة - مع المساعدة في نشر القيم الأمريكية. تعرض خدمات البث هذه طريقة الحياة الأمريكية في غرف المعيشة حول العالم. وبالمثل، فإن المكانة المرتبطة بالجامعات الأمريكية وفرص تكوين الثروة التي أنشأتها الشركات الأمريكية تجتذب المتشددين من جميع أنحاء العالم. باختصار، تعتمد قدرة أي دولة على إبراز قوتها في المجال الدولي على من يسيطر على الفضاء العام في غرف جلوس البشر في هذا العالم.
وبالنظر إلى مدى اعتماد الجيوش والاقتصادات الحديثة على البنية التحتية الرقمية، فمن المرجح أن تبدأ أي حرب مستقبلية بين القوى العظمى بضربة إلكترونية. وهو ما يحصل اليوم في حرب الظل بين إيران والكيان المؤقت.
الذكاء الاصطناعي
في العصور السابقة، كانت التقنيات التي شكلت الجغرافيا السياسية - من البرونز إلى الصلب، والطاقة البخارية إلى الانشطار النووي - فريدة إلى حد كبير. كانت هناك عتبة واضحة للإتقان التكنولوجي، وبمجرد وصول بلد ما إليها، تتمّ تسوية الملعب. أما الذكاء الاصطناعي، فإنه على النقيض، ذلك أنه توليدي بطبيعته. ابتكار يؤدي إلى المزيد من الابتكار، وسرعة تؤدي إلى مزيد من السرعة، هذه الظاهرة تجعل عصر الذكاء الاصطناعي مختلفًا اختلافًا جوهريًا عن العصر البرونزي أو العصر الفولاذي. بدلًا من ثروة الموارد الطبيعية أو إتقان تكنولوجيا معينة، يكمن مصدر قوة البلد الآن في قدرته على الابتكار المستمر.
يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي اليوم أن توفر بالفعل مزايا رئيسية في المجال العسكري، حيث يمكنها تحليل ملايين المدخلات، وتحديد الأنماط، وتنبيه القادة إلى نشاط العدو. على سبيل المثال، استخدم الجيش الأوكراني الذكاء الاصطناعي لمسح بيانات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع بكفاءة من مجموعة متنوعة من المصادر. إلى ذلك، وعلى سبيل المثال أيضًا، فإن الابتكار في الطائرات بدون طيار يقلب بالفعل ساحة المعركة. في عام 2020، استخدمت أذربيجان طائرات بدون طيار تركية وإسرائيلية الصنع للحصول على ميزة حاسمة في حربها ضد أرمينيا في منطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها، محققة انتصارات في ساحة المعركة بعد أكثر من عقدين من الجمود العسكري. وبالمثل، لعب أسطول أوكرانيا من الطائرات بدون طيار - وكثير منها نماذج تجارية منخفضة التكلفة أعيد استخدامها للاستطلاع خلف خطوط العدو - دورا حاسما في نجاحاته.
ما يعني أن تكون مصدّرًا للتقنية؟
ولنتأمل هنا القوة التي يمكن أن تمارسها أي دولة على البلدان التي تزودها بأجهزة الاتصالات. ليس من المستغرب أن البلدان التي تعتمد على البنية التحتية التي توفرها الصين - مثل العديد من البلدان في إفريقيا، حيث تشكل المكونات التي تنتجها Huawei حوالي 70 في المائة من شبكات 4G – لم تكترث لخطاب الولايات المتحدة حول معاييرها في انتهاكات حقوق الإنسان الصينية. وبالمثل، تمتعت الولايات المتحدة، بفضل دورها في تأسيس الإنترنت، لعقود من الزمان بمقعد على الطاولة يحدد لوائح الإنترنت. خلال ما يسمى الربيع العربي، كانت الولايات المتحدة موطنًا لشركات التكنولوجيا التي وفرت العمود الفقري لتوفير الشبكة بعد أن رفضت طلبات الرقابة التي قدمتها الحكومات العربية. كما مكنت الناشطين الإيرانيين المعارضين في أحداث وفاة مهسا أميني، من خلال تحويل حساباتهم على مواقع التواصل إلى حسابات تملك ملايين المتابعين بين ليلة وضحاها.
الولايات المتحدة vs الصين
الواقع أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بالمرتبة الأولى تكنولوجيًا، وهو الأمر الذي يمكنها من الاستمرار في الهيمنة على النظام الدولي على الرغم من الجهود القائمة لتحرر الدول من هذا النظام، وقدرتها على اختراقه، كما أن التقدم في انتاج الشرائح الالكترونية التي من خلالها يمكن تصنيع أحدث الأسلحة والطائرات والأساطيل والغواصات، بالإضافة إلى المنتجات المنزلية والتي تستخدم في الإطار المدني، كل هذا يعطيها ميزة امتلاك أقوى سلاح في العالم.
إلا أن الصين لديها خطط طموحة أيضا. تمول الحكومة الصينية جهودًا غير مسبوقة لتصبح رائدة في تصنيع أشباه الموصلات بحلول عام 2030. كما أن سهولة الوصول إلى البحوث التطويرية في المجال التكنولوجي وإمكانية اكتشافها يساعد على اللحاق بسرعة قياسية. وهذا ما فعلته الصين في الجيل الرابع 4G، ورغم أن بعض النجاح التكنولوجي الذي حققته الصين مؤخرا ينبع من التجسس الاقتصادي وتجاهل براءات الاختراع، فإن الكثير منه يعود إلى الجهود الإبداعية، وليس المشتقة، الرامية إلى تكييف وتنفيذ التكنولوجيا الجديدة.
والواقع أن الشركات الصينية تمتعت بنجاح باهر في تبني وتسويق الاختراقات التكنولوجية الأجنبية. ضخت بكين مليارات الدولارات لضمان تقدمها في السباق من أجل التفوق التكنولوجي. حتى الآن، السجل مختلط. تتقدم الصين على الولايات المتحدة في بعض التقنيات لكنها متخلفة في تقنيات أخرى.
من الصعب القول ما إذا كانت الصين ستستحوذ على زمام المبادرة في الذكاء الاصطناعي، لكن كبار المسؤولين في بكين يعتقدون بالتأكيد أنها ستفعل ذلك.
الكاتب: زينب عقيل