ليس الطموح وحده سبب التحولات الكبرى، بل محاولة البقاء على قيد الحياة، تحتاج بيكين إلى عقد الاتفاقيات والشراكات الجديدة والإنتاج بشكل دائم وإلا ستواجه مشاكل ضخمة مع عدد سكانها الكبير، وخلال هذه السيرورة، يبدو أن الصين بدأت بإعادة كتابة قواعد النظام العالمي في آسيا وخارجها بعدما تحسّست قوّتها، فـ"مع نمو قوة الدولة، تزداد شهيتها"، يقول المنظرون. تدّعي الصين أنها لا تريد أن تكون قوّة عظمى كقطب دولي في النظام العالمي، وتصرّح على لسان مسؤوليها بأنها فقط دولة نامية، وتدّعي الولايات المتحدة أن الصين تريد أن تكون القوة العظمى، أي الشمس الجيوسياسية التي يدور حولها النظام.
من هي الصين؟
ثمة شخصية لكلّ دولة، يمكن أن نسميها الهوية الوطنية، وهي التي تؤطّر دور الدولة في العالم. في حين تعتمد الولايات المتحدة الشخصية النرجسية للسيطرة على الدول عبر التسلط والتلاعب والابتزاز، تعتمد الصين الشخصية الكونفوشية، بالاستعانة بتواضع البوذية، لعقد الشراكات والفوز بالاستثمارات الأساسية في الدول. إذ تقدّم نفسها كدولة موازية من العالم الثالث مع ميزة أنها تمكّنت من التقدم. وفيما يلي عرض لأبرز ملامح الشخصية الصينية:
الكونفوشية الجديدة
وفقًا لتصريحات شي جين بين في المبادئ التوجيهية لخطاب الحزب الشيوعي الصيني، يمكن ملاحظة محاولات تحديث ودمج وتطوير مدارس الفكر القانوني والنظام السياسي مع تقاليد وحكمة البلاد وفقًا للثقافة الكونفوشية. وتعتبر الكونفوشية هي الأيديولوجية العظمى للحفاظ على تماسك الدولة. "إن امتلاك الفضيلة يمنح الحاكم شعباً، وامتلاك الناس يمنحه الأرض، وامتلاك الأرض يمنحه الثروة، وامتلاك الثروة يمنحه موارد الإنفاق. فالفضيلة إذاً هي الأصل؛ والثروة هي الفرع". تقول إحدى الكلاسيكيات الكونفوشيوسية.
الانحياز ضدّ المصالح الغربية
منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية على يد ماو تسي تونغ، الذي كان يرى أن كلّ دول العالم الثالث يجب أن تقوم بثورة ضدّ المصالح الغربية تحت القيادة الشيوعية. حاول ماو تسي فرض هذه الرؤية على جارته الهند ثاني أكبر دولة في العالم، إلا أنها عندما فضلت عدم الانحياز، حصل أول إحباط في العلاقة بينهما. بعدها أصبحت هذه الرؤية أكثر مرونة، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسعي الصين للنجاة بنفسها بعد انهيار رمز الشيوعية. وإلى اليوم، وعلى الرغم من كل الجهود الغربية لإحباط الصين واختراقها، ليس فقط القادة الشيوعيون لديهم وجهة نظر بعلاقات نديّة مع الغرب، بل غالبية الشعب الصيني أيضًا يظهر افتتانًا بالسلطة الشيوعية. وحادثة طرد الرئيس الصيني السابق جيتناو من انتخابات الحزب بسبب خلفيته المؤيدة للحفاظ على العلاقات الطيبة مع الولايات المتحدة، ليست بعيدة.
الاشتراكية ذات الخصائص الصينية
في كتاب يتضمن خطابات وكتابات الرئيس الصيني باعتباره المرشد للحزب الشيوعي الصيني ومنظّره، تمّ تصوير الأهداف السياسية في أعقاب الحقبة الطويلة من الليبرالية الجديدة، تحت عنوان: "شي جين بينغ: حوكمة الصين". فالحزب يسترشد بأفكار تشي حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية من أجل "العصر الجديد" وقيادات الحزب تسير حسب أفكار وتصورات الرئيس. لقد وحّدَ أهدافه وغاياته في سعيه لإعادة الصين إلى موقعها السابق المتمثل في الوصول إلى قمة الهرم الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري من خلال الدمج بين المبادئ الاشتراكية القديمة وبين الإقتصاد الحرّ، هي مزيج من البراغماتية الصينية والليبرالية التي تفرضها الدولة. وأحد السمات المميزة لاشتراكية "الخصائص الصينية" هي أن يلعب الحزب دورًا مركزيًا في الحكم.
السياسة الخارجية الصينية
تحت عناوين "الانسجام الاجتماعي والبيئي والسياسي"، و"العدل والإنصاف" الكونفوشية، نسمع في تصريحات المسؤولين الصينيين والإعلام الصيني، خطابًا يتبنى سياسة عدم الانحياز والسعي الحثيث للوصل بين الأطراف المتنازعة، يقول تشي. أن "على الدول غير الإقليمية أن تفعل المزيد لتسهيل الحوار من أجل السلام والمساهمة في السلام والتنمية. كما أنه يجب رفض فكرة الأمن المطلق على حساب الآخرين والعقلية الصفرية أو عقلية التفوق". ويحثّ صن ديجانج ووو سيك أحد الباحثين الصينيين في أحد مقالاته دول الشرق الأوسط على التخلي عن مفهوم الأمن التقليدي حيث تسعى الدولة إلى الأمن المطلق لنفسها، من خلال نشر الأسلحة وإقامة تحالفات عسكرية، لصالح تعزيز الأمن المشترك إذ لا يمكن تحقيق الأمن المستدام إلا من خلال بناء هيكل للأمن الجماعي.
الصين الكبرى: لا يمكننا أن نفقد شبرًا واحدًا
تتكشف معالم شخصية الدولة من خلال تعاملها مع القضايا الساخنة، تبرز تايوان والتبت كجوهر القضايا الوطنية والقومية في الصين، يريد الحزب الشيوعي الصيني أن يجعل الصين موحدة مرة أخرى من خلال استعادة الأراضي التي فقدتها في العصور السابقة من الاضطرابات الداخلية والعدوان الأجنبي. تتضمن خريطة شي للصين هونغ كونغ التي أعيد دمجها بالكامل في الدولة التي يقودها الحزب الشيوعي الصيني (وهي عملية جارية على قدم وساق) وتايوان أعيدت إلى قبضة بكين. في أماكن أخرى على طول محيطه، لدى الحزب الشيوعي الصيني نزاعات حدودية معلقة مع دول من الهند إلى اليابان. تدعي بكين أيضًا أن حوالي 90 بالمائة من بحر الصين الجنوبي - أحد الممرات المائية الأكثر حيوية من الناحية التجارية في العالم - هي ملكها السيادي. يقول المسؤولون الصينيون إنه لا مجال للتسوية بشأن هذه القضايا. قال تشي للولايات المتحدة عام 2018: "لا يمكننا أن نفقد حتى شبرًا واحدًا من الأرض التي خلفها أسلافنا وراءهم". فالضامن الوحيد لوحدة الصين كما يرى الصينيون، هو سيادتها على كافة أراضيها التقليدية، فكيف إذا كانت مناطق استراتيجية!
الصين مصنع العالم
وفقًا للبيانات التي نشرتها شعبة الإحصاءات في الأمم المتحدة ، شكلت الصين 28.7 في المائة من ناتج التصنيع العالمي في عام 2019. وهذا يضع البلاد في المقدمة بأكثر من 10 نقاط مئوية على الولايات المتحدة ، التي كانت تمتلك أكبر قطاع تصنيع في العالم حتى تجاوزت الصين. في عام 2010.
بلغ إجمالي القيمة المضافة من قبل قطاع التصنيع الصيني ما يقرب من 4 تريليونات دولار في عام 2019 ، وشكل التصنيع ما يقرب من 30 في المائة من إجمالي الناتج الاقتصادي للبلاد. اقتصاد الولايات المتحدة أقل اعتمادًا على التصنيع هذه الأيام: في عام 2019، شكل قطاع التصنيع ما يزيد قليلاً عن 11 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وهو الأمر الذي يجعل الصين مصنع العالم.
الكونفوشية الصينية vs النرجسية الأمريكية
ربما لا تتصور الصين نوع الهيمنة المادية الصريحة التي مارسها الاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية خلال الحرب الباردة، كما لا تمارس الهيمنة المادية كما تمارسها الولايات المتحدة. تمكّنت الولايات المتحدة من الأحادية القطبية بفعل شعورها بالتفرّد وأن لديها مهمة لتغيير العالم، وكان عالم السياسة والمؤرّخ الفرنسي ألكسيس دي توكفيل أوّل كاتب وصف الولايات المتحدة بأنها «استثنائية» في عامي 1831 و1840، لتتحوّل "الاستثنائية الأمريكية" إلى نظرية، جعلت الولايات المتحدة فوق كل شي، حتى القوانين الدولية. وتسببت هذه النرجسية بعلاقات سيطرة وتملّك واستباحة وتخلٍّ عند انتهاء المصلحة، ليس فقط مع دول العالم الثالث بل أيضًا مع الحلفاء.
أما الصين، فتسخدم مزيج من الجاذبية والتواضع لضمان اقتصادات الدول التي تدخل إليها باستقبال حارّ، وليس بغزو أو ثورة ملوّنة. فالدول، سواء العظمى أو الأصغر، تحترم الحزب الشيوعي الذي لا يفرض نفسه شرطيّ العالم كما فعل الاتحاد السوفياتي ثم انهار، وكما فعلت الولايات المتحدة فاستنزفت مواردها وطاقتها وقوتها في الانتشار العالمي، وهو ما دفعها إلى تقليصه مؤخرًا.
في المقابل، تقدّم بكين القروض للدول النامية بحجم وشكل غير قابل للتطبيق للولايات المتحدة، فالصين تقدّم عقود استثمار بقروض طويلة الأمد، في حين تعتمد الولايات المتحدة فرض أجندات مقابل قروض صندوق النقد الدولي التي تذهب غالبًا إلى جيوب النخب الفاسدة الحليفة لها في الدول. وإذا كانت الولايات المتحدة تدمّر اقتصادات الدول بفعل التدخل السياسي والاقتصادي والقروض، فإن الصين تتغلغل بشكل ناعم ليس فقط إلى اقتصادات الدول، بل عبر الاستثمارات طويلة الأمد في البنى التحتية وخاصة تلك الاستراتيجية مثل الموانئ والمطارات. كما أنها لا تذهب لنهب مقدرات الدول كما تفعل الولايات المتحدة من خلال صفقات زهيدة، بل تقدّم ما لا تقدمه الولايات المتحدة من تكنولوجيا وأسلحة وشراكات تحت مصاديق التعاون والازدهار المشترك.
من سيحكم العالم؟
تسعى الدول الصاعدة عادة إلى نفوذ واحترام وسلطة أكبر. فما الحال وقادة الصين أصلًا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ورثة دولة صينية كانت قوة عظمى في معظم التاريخ المسجل. قال شي في عام 2014: "منذ حرب الأفيون في أربعينيات القرن التاسع عشر، لطالما اعتز الشعب الصيني بحلم تحقيق تجديد كبير للحيوية الوطنية".
ليس ضروريًا أن تتبجّح بالسيطرة والهيمنة لتكون مهيمنًا، فبمجرّد احتكار المؤهلات تكون قد امتلكت زمام السيطرة، لقد استغلت الصين ببراعة الوصول إلى اقتصاد عالمي مفتوح، وتمكّنت من أن تصبح أكبر مصنع في العالم، بل هي مصنع العالم. كما مكّنت نفسها في اقتصادات أغلب الدول النامية في آسيا وأوروبا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وعلى الرغم من الجهود الأمريكية لحظر الشركات الصينية وفرض ذلك على حلفائها في الاتحاد الأوروبي، والدول المحمية التابعة لها. إلا أن الاتحاد الأوروبي المنهك اقتصاديًا والمنهار اجتماعيًا، لم يعد قادرًا على تحمّل القيود. وكما دخلت الولايات المتحدة إلى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وأعادت إعمارها عبر القروض والمساعدات، يبدو أن الصين ستدخل إلى أوروبا من نفس البوابة بعد الحرب الأوكرانية، خاصة بعدما بدأت النرجسية الأمريكية بالاستفادة من الاقتصاد الأوروبي المنهار لتعزيز اقتصادها.
ثمة نبوءة لنابليون بونابرت قبل أكثر من قرنين، أنّ "هناك في أقصى الشرق عملاقًا نائمًا، اتركوه ولا توقظوه، فإنه إذا استيقظ، فسوف يهتزّ العالم"، فهل ستكون الصين الشرطي الجديد في العالم؟ أم أنّ قيام العالم على قطب واحد وقوة واحدة كان طفرة حصلت عليها الولايات المتحدة قبل أن يعود العالم إلى التعددية من جديد؟
الكاتب: زينب عقيل