35 عاماً مرّت على انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي عرفت بانتفاضة الحجارة. هذا "الحدث الاستثنائي في تاريخ الشعب الفلسطيني"، كما يصفها مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، والتي شاركت بها كل أطياف الشعب الفلسطيني وفئاته وطبقاته وقد شملت كل المناطق بالإضافة الى المخيمات. وقد شرح الشهيد الشقاقي الاستراتيجيات التي اعتمدها الاحتلال لإخمادها أو التخفيف من تأثيرها وتهديدها على كيانه.
الاحتلال في مرحلة الانكار والصدمة
في البداية، أوضح الشهيد الشقاقي أنه "عندما اندلعت شرارة الانتفاضة – الثورة لم يكن بوسع أحد يومها أن يتصور أننا أمام حدث كبير سيقلب الموازين ويعيد ترتيب أشياء عديدة في المنطقة، بل إن تسميتها بالانتفاضة يشير إلى ظن الكثيرين أن ما حدث لن يستمر طويلاً ولن يكون شاملاً وأنه ليس أكثر من رد فعل مؤقت. العدو الصهيوني الذي أربكه ما حدث اعتبره أحداث شغب عابرة لن تعمر أكثر من أيام معدودة. وعندما قال سياسي صهيوني في ندوة تليفزيونية إن هذا تمرد مدني وعصيان، رد عليه مشارك صهيوني أكثر تطرفاً: إن التمرد في رأسك فقط هذا ليس أكثر من شغب". وكان أيضاً وزير حزب الاحتلال آنذاك إسحاق رابين يوصّف ما يجري بـ "الشغب الذي سينتهي في أيام قليلة"،
وفي محاولته لاختراق صفوفها، اعتمد الاحتلال عدّة أساليب، يفنّدها الشهيد الشقاقي:
_ حرب البيانات والتضليل
استخدم العدو في مرحلة مبكرة حرب البيانات حيث قام ضباط أمن الاحتلال وعملاؤه بإلقاء آلاف النسخ من البيانات وبأسماء تنظيمات فلسطينية إسلامية ووطنية محاولاً أن يخلق بذلك حالة من الانقسام والاضطراب بين صفوف الشعب فيما يخص فعاليات الانتفاضة أو علاقات القوى السياسية ببعضها البعض ولكن الشعب الفلسطيني ميّز بوعي عميق وبحدس لا يخطئ لغة العدو وخطابه في البيانات المصطنعة، ولقد ساعدت حالة التسييس العالية للشعب مساعدة كبيرة في عملية التبيين والتمييز.
_ استخدام العملاء
وكان العدو قد استطاع منذ بداية السبعينات في ظل ما زرعه من فقدان الثقة وما أشاعه من تدهور أخلاقي أن يشكل شبكات من العملاء من ضعاف النفوس الذين رضوا لأنفسهم خيانة شعبهم وبيع أرواحهم بثمن بخس ومع اندلاع الانتفاضة أطلق العدو شبكات عملائه كأداة حيوية لمخططاته العميقة في مواجهة الجماهير. اضطرت القوى الفلسطينية إلى تسديد ضرباتها للعملاء وكان التوجه الجماهيري الثائر إلى منزل العميل محمد عياد في قباطية بمنطقة جنين في 24/2/1988 وإعدامه أمام العالم نقطة تحول بارزة جعلت كثيراً من العملاء المترددين يسلمون أسلحتهم إلى سلطات العدو ويسارعون كمن سبقوهم إلى التوبة، وقد فشلت حتى الآن (في المرحلة الأولى للانتفاضة) كل محاولات العدو لتشكيل طابور خامس من العملاء وإعادة تجربة الانقسام الفلسطيني الداخلي في سنوات ثورة 1936 – 1939.
_ الفتن بين فئات الشعب
استمرت مراهنة العدو على شق الصف الفلسطيني في الداخل، وشكّلت جزءاً أساسياً من مخططاته لإجهاض الانتفاضة - الثورة فحاول مرة عبر تشجيعه لبعض الشخصيات والقيادات المحلية الهامشية على أحد مواقع ومواقف لا تنطبق بالضرورة مع الإجماع الشعبي العام، وحاولها مرة ثانية بالتركيز على بعض الانقسامات والصدامات العابرة بين القوى السياسية الفاعلة خاصة بين بعض الإسلاميين من جهة وقوى وطنية من جهة أخرى، ولكن شعبنا المجاهد وقواه السياسية الفاعلة كانت تفوت الفرصة على العدو المجرم ، فقد التزمت معظم القيادات في النهاية بالإجماع الشعبي عندما رأت تصميم الشعب على مواصلة انتفاضته بلا تراجع كما استطاعت القوى السياسية أن تجد حلاً أو آخر لخلافاتها.
_ حرب وسياسات غير قانونية
"مارس الاحتلال متجاهلاً الرأي العام وكل الأعراف الإنسانية حرباً مباشرة وبشعة ضد الشعب الفلسطيني فقد أطلق النار على الأطفال والنساء والشيوخ". بلغ عدد الشهداء خلال 6 سنوات حوالي الـ 1550 شهيداً الى جانب عشرات الآلاف من الجرحى.
بالإضافة الى 100 ألف أسير عاشوا ظروف اعتقال " لا تقل وحشية عن تلك التي شهدتها معسكرات الاعتقال النازي وذلك في معسكرات جماعية كبيرة موزعة بين صحراء النقب وهضاب الخليل وشاطئ غزة إضافة إلى معتقلات فرعية أصغر". كذلك واصل الاحتلال سياسة الإبعاد التي كرسها قبل سنوات الانتفاضة"، وقد ابعد الاحتلال في المراحل الأولى للانتفاضة "حوالي ستين من قيادات وفعاليات الانتفاضة إلى خارج فلسطين".
كما صعّد الاحتلال من استخدامه للقوانين التعسفية واللاشرعية وأصبح أمراً عادياً أن يحكم على من يقذف حجراً على جنود الاحتلال بالسجن لمدة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات ويفرض غرامات مالية عالية على ذويه. وقد عمد الاحتلال أيضاً الى هدم منازل "المتهمين" بأقل التهم الأمنية.
_ عزل المناطق ومحاصرة القطاعات الحيوية
على مستوى آخر وفي محاولة لتفتيت تماسك القوة الشعبية في الداخل لجأ الاحتلال إلى الفصل الكامل للضفة عن القطاع ومنع الانتقال الحر بينهما كما لجأ في حالات عديدة إلى عزل وتطويق مناطق بأكملها لعدة أيام إما بقصد التجويع والقهر النفسي أو بقصد منع الاتصال بالخارج، وقد رد الشعب الفلسطيني بإبداع وصمود مذهلين على كل أساليب الاحتلال القمعية وحافظ على قنوات الاتصال بين الضفة والقطاع وبين الداخل والخارج مفتوحة ومستمرة وبقنوات مبتكرة ومتعددة.
لكنّ من أهم المعارك التي خاضها الشعب الفلسطيني، لا سيما في العامين الأولين للانتفاضة، كانت في مجالي التعليم والاقتصاد. على المستوى الأول بادر الاحتلال منذ الشهور الأولى للانتفاضة إلى إغلاق الجامعات نهائياً ثم تبع ذلك إغلاق المدارس لشهور طويلة ولكن أهداف الاحتلال في هذا المجال ردت إلى نحره فقد تحول الـ 480 ألف طالب من الضفة والقطاع إلى رصيد جديد لفعاليات الانتفاضة – الثورة كما انتقلت مراكز التجمع والتخطيط والانطلاق الجماهيرية من المدارس والجامعات إلى المساجد.
على المستوى الاقتصادي حاول الاحتلال قهر الانتفاضة ومحاصرتها اقتصادياً ومالياً عبر سلسلة متزايدة من الإجراءات منها: منع بيع المنتجات الزراعية للضفة في القطاع أو العكس أو تصديرها للخارج، عدم زيادة حصص المياه المقررة للمناطق المحتلة وقطع المياه والتيار الكهربائي لأيام عديدة مما ساهم في تعطيل العديد من المعامل والمصانع والورش الصغيرة، مصادرة مزيد من الأراضي وتسليمها للمستوطنين، منع دخول الأموال من الخارج، فرض الضرائب وتحصيلها بطريقة تعسفية حيث وصل عدد الضرائب التي يفرضها الاحتلال على الشعب في فلسطين المحتلّة الى 14 نوعاً، وقد بلغت حصيلة الضرائب عام 1987 الى 745 مليون دولار. ذلك بالإضافة الى قيام المستوطنين بتخريب وتسميم الزراعات الفلسطينية في الضفة والقطاع، وتقييد حركة صيادي الأسماك، وربط فرص العمل المتاحة للعمال وأصحاب الورش والصناعات الصغيرة بوجهة نظر الاحتلال الأمنية والسياسية في الأشخاص والعمال. كما عمل الاحتلال على قمع كل محاولات التكافل بين الشعب في الضفة والقطاع في المناطق المحتلّة عام 1948.
العمل الأمريكي ضد الانتفاضة
أكّد الشهيد الشقاقي أنه "منذ الأسابيع الأولى للثورة الشعبية حاولت الولايات المتحدة الامريكية محاصرتها وتطويقها وعزلها عن محيطها العربي والإسلامي حتى لا تساهم في تفجير النهوض الإسلامي والوطني في المنطقة فتغير موازين القوى وبالتالي تربك المشاريع الأمريكية في السيطرة والهيمنة. واستمرت الولايات المتحدة الأمريكية في تقديم الدعم الكامل للكيان الصهيوني وتحقيق كافة الرغبات الصهيونية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً مؤكدة أنها شريك في العدوان". لكن بعد شهرين فقط على الانتفاضة اعترف رئيس وزراء الاحتلال آنذاك إسحاق شامير أن "هذه حرب حقيقية هؤلاء لا يريدون غزة والخليل فقط، هؤلاء يريدون يافا وحيفا أيضاً". وبعد عدة شهور، قال رئيس أركان جيش الاحتلال دان شومرون "إن معجزة لن توقف الانتفاضة".
الانتفاضة: ضرب مواطن ضعف العدو
أمام كل إجراءات الاحتلال لإخماد هذه "الثورة" وأمام "الحصار العربي والدولي من حولها"، فإن استمرارها جسّد "قوة الإرادة الشعبية وقوة المخزون الروحي والإيماني الذي يطلق كل هذا الفعل ويحافظ على استمراريته وصموده، أخيراً اكتشف الشعب الفلسطيني المجاهد موطن القوة فيه في نفس الوقت الذي اكتشف موطن الضعف في العدو، فضرب ضعف العدو بقوته"، حسب ما أكّد الشهيد الشقاقي، وفي معرض حديثه عن الانتفاضة توجّه الشهيد الشقاقي الى الدول العربية بالقول "كما انتفضنا أمام أعتى قوة عسكرية في المنطقة، وكما استطعنا أن نمرغ أنوفهم في التراب، تستطيع الشعوب في غير مكان أن تفعل نفس الشيء".
الكاتب: مروة ناصر