مرّ حوالي الاسبوعان على معركة "وحدة الساحات" التي خاضتها حركة الجهاد الإسلامي الى جانب الفصائل الفلسطينية الأخرى رداً على اغتيال كيان الاحتلال لقائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس تيسير الجعبري وعلى عدوانه على قطاع غزّة. لكنّ المعركة التي توقف فيها إطلاق النار بعد 55 ساعة لم تنتهِ مفاعليها، اذ أن أبعادها ونتائجها تؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ الصراع مع الكيان.
من جملة الأبعاد، كانت المعركة اختباراً لثبات المعادلات التي كرّستها الفصائل الفلسطينية منذ ما بعد معركة "سيف القدس" في أيار / مايو من العام الماضي ومن أهمها ترابط ووحدة جبهات الساحة الفلسطينية من غزّة الى القدس والضفة الغربية وصولاً الى أراضي عام 1948، اذ إن الاحتلال كان يظن خلال عدوانه الأخير أنه سيكون عملية خاطفة ذات ردود محدودة لتفكيك جبهة المقاومة الفلسطينية. فهل حافظت المقاومة الفلسطينية على ترابط الساحات؟
معركة "سيف القدس" والتلاحم الفلسطيني:
كانت وحدة الشعب الفلسطيني والساحات وتلاحم الجبهات، في داخل فلسطين وعلى امتداد أراضيها كافة، ومواجهة العدو كجسد واحد، في القدس وغزة والضفة الغربية وفي أراضي 48 أو في المخيّمات، هي أبرز ما دعا له السيد القائد "علي الخامنئي"، في يوم القدس العالمي من العام الماضي. وكان ذلك، نتيجة سياسة التشتيت الصهيونية التي اتبعها الكيان المؤقت لتفكيك المجتمع الفلسطيني والفصل بين ساحاته، والتفرد بمواجهة كل منها على حدة وبطريقة تختلف عن الأخرى. وبالوحدة، يصبح المجتمع الفلسطيني ينظر للتحديات والتهديدات الإسرائيلية التي يواجهها قطاع أو منطقة أو فصيل أو جهة معينة، هو خطر يواجه الجميع، إذ يدافع كلّ قطاعٍ عن القطاعات الأخرى، ككتلة واحدة، من خلال تنويع أنماط المواجهة، وتشتيت العدو، والتأثير على المجتمع الإسرائيلي، وإعادة دمج فلسطينيي 48 في المواجهة، وغيرها من الأساليب التي تعيد الأمل للمجتمع الفلسطيني.
فبعد سيطرة حماس على قطاع غزة في العام 2007، ترسّخ لدى قيادات الكيان المؤقت مفهوم "الفصل" بين قطاع غزة والضفة الغربية، باعتبار تواجد المقرات والقوات العسكرية للتنظيمات الفلسطينية بقيادة حماس في قطاع غزة. وبالتالي، فإن لإسرائيل مصلحة في منع بناء بنية تحتية للمقاومة في الضفة الغربية، من خلال قطع الارتباط بين قطاع غزة والضفة الغربية بما يمنع تهريب السلاح وتسلل العناصر ونقل التعليمات وما شابه ذلك. فالفصل بين المنطقتين والقدرة على إدارة سياسات مختلفة تجاه كل منهما يجعل إدارة الصراع أسهل.
فلطالما اعتمد الكيان المؤقت سياسة زرع الشقاق بين فصائل المقاومة الفلسطينية وإبعاد حاضنتها الشعبية عنها، وتقسيم الساحات، إلا أن معركة "سيف القدس" جاءت لتنسف كل الإجراءات الإسرائيلية ولتكرس واقع ومعادلة جديدة تكرّست بـ "تلاحم الجبهات" التي كانت النواة الأولى للانتصار الفلسطيني العام الماضي. فـهذه المعركة، ربطت ساحات العمل الفلسطيني وجعلتها في جبهة واحدة غير منفصلة، وأفشلت العدو في تحقيق أحد أبرز أهدافه بعد المعركة، وهو الفصل فيما بينها. وقد اعترف العدو بهذا الفشل بعد موجة العمليات التي اجتاحت الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني المحتل، وتهديدات المقاومة في قطاع غزة، وإطلاق عدد من الصواريخ من غزة والجبهة الشمالية، فتحوّلت المقاومة إلى حالة فلسطينية عامة، عززت التلاحم بين مختلف القطاعات. وبالتالي كرّست وحدة الساحات معالم مرحلة جديدة، حيث أصبح الاحتلال يخشى من الدخول في معركة أخرى كون الكلفة التي وقع فيها عالية.
وفي شهر أيار من هذا العام، وفي خطوة هدفها التصعيد المتعمد من جانب كيان الاحتلال الصهيوني في القدس المحتلة ورُغم تحذيرات المقاومة في قطاع غزة. أقرّت سلطات الاحتلال خط سير "مسيرة الأعلام" الاستفزازية، التي ينظمها المستوطنون الصهاينة في باب العامود والحي الإسلامي في البلدة القديمة، والتي أُقيمت دون أن يتعدّى العدو الإسرائيلي الخطوط الحمر المتعلّقة بالمسّ بالمسجد الأقصى، وذلك بعد أن شدّدت غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، على "وحدة الساحات وعلى قدسية الدم الفلسطيني أينما وجد في غزة والضفة والقدس والشتات وصولاً إلى إنهاء النكبة الفلسطينية". وكان رئيس المكتب السياسي لحركة (حماس) إسماعيل هنية، قد صرّح حينها أن "المقاومة الفلسطينية نقلت المعركة إلى داخل الكيان الصهيوني وإلى كل شبر من أرض فلسطين". وأشار إلى أن ""معركة سيف القدس" ضربت نظرية الردع والحروب الخاطفة التي اتبعتها إسرائيل.. مشيرًا إلى أن من نتائجها توحيد الأرض والشعب والقضية وإزالة الحواجز الجغرافية داخل فلسطين، وأن قضية فلسطين كقضية تحرر وطني عادت مرة أخرى للبروز في صورة للوحدة والتماسك بعد معركة سيف القدس."
كذلك فعل الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة، الذي شدّد مرة أخرى على "ضرورة وحدة الشعب في كافة أماكن وجوده من أجل حماية المقاومة واستمرارها"، مطالبًا بوحدة الساحات القتالية لعدم السماح للعدو بالاستفراد بمنطقة دون غيرها. بالإضافة إلى أنه أكّد على "أن معركة سيف القدس كانت وما زالت فرصة كبيرة لوحدة شعبنا ومقاومته، وأن حماية هذه الوحدة أصبحت واجبًا وليست خيارًا، وخاصة في ظل تحالفات معادية تنشأ من حولنا كل يوم، وتصب في مصلحة العدو". وبالتالي، دفعت "سيف القدس" إلى اصطفاف كبير من الشعب الفلسطيني حول خيار المقاومة في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية والتي شكّلت رادعًا قويًا في وجه العدو، عبر إعادة تصويب البوصلة إلى المشترك البيني، وتجديد التعاون والتآزر في مواجهة أيّ عدوان إسرائيلي.
معركة "وحدة الساحات"
في الأول من شهر آب، اعتقلت إسرائيل القيادي البارز في حركة الجهاد الإسلامي في منطقة جنين في الضفة الغربية، بسام السعدي، وفي الأيام التي أعقبت اعتقاله، هدّد الجهاد الإسلامي بالرد بإطلاق النار من غزة. ففرض الجيش الإسرائيلي قيودًا صارمة على الحركة، وفي بعض الأماكن، تمّ حظر التجول، لمدة أربعة أيام، حيث حوصر الآلاف من المستوطنين في منازلهم دون أن يتمكنوا من الذهاب إلى العمل خوفًا من إطلاق النار عليهم أثناء سفرهم على الطرق الرئيسية في جنوب إسرائيل.
وفي الخامس من الشهر نفسه، شنّ الجيش الإسرائيلي عملية استباقية ضد البنية التحتية العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، وضد قادتها، وسميت العملية "بزوغ الفجر". فجاء العدوان الغاشم على غزة على مدار الأيام الماضية، ليعيد طرح مفهوم "وحدة الساحات"، وتثبيته في وجه هذا العدو، الذي قام بالتحضير لهذه العملية إعلاميًا وشعبيًا على مدى 4 أيام، مراهنًا على أن تكون عملية خاطفة ذات ردود محدودة، محاولاً في ذلك تفكيك جبهة المقاومة الفلسطينية، مدعيًا أنه في مواجهة مع حركة الجهاد الإسلامي دون غيرها من أجل إحداث شرخ بين الفصائل وتفريق صفوفها، إذ أن العدو الصهيوني أراد أن تدفع حركة "الجهاد الإسلامي" ثمن إصرارها على ربط ساحتَي الضفة وغزة. لكن على رغم فداحة الخسائر التي لحقت بـ “الجهاد"، وعمق الخروقات التي استطاع العدو إحداثها في جدار معادلة ربط الساحات، إلّا أن ما ثبت اليوم هو أن تلك المعادلة أصْلب ممّا ظنّته إسرائيل، وأن تهشيمها نهائيًا لن يكون متاحًا بمجرّد رفع مستوى العدوانية، وتفعيل سياسة الغدر، ومحاولة هزم الخصم بإرعابه وإيقاعه تحت الصدمة.
أ/ الموقف الفلسطيني من وحدة الساحات
مع بدء العدوان الإسرائيلي، سارعت غرفة العمليات المشتركة للمقاومة في غزة إلى الاستنفار ووضع نفسها في حالة انعقاد دائم، بهدف تنسيق الجهود واتخاذ القرارات المناسبة، وكان المتحدث باسم حركة حماس حازم قاسم قد صرّح بأن "المقاومة تخطط وتعمل من خلال غرفة العمليات، وإدارة المعركة تجري بتوافق فصائلي"، وأضاف: "إن مقاومتنا موحدة ولن تفلح محاولات الاحتلال في زرع بذور الفتنة والفرقة". إضافة لما أعلنه الناطق باسم حماس فوزي برهوم أن "هذه جولة من جولات القتال ومحطة من محطات الصراع المتواصل والمحتدم مع الاحتلال والذي لن ينتهي إلا بزواله عن فلسطين". إلّا أن الكيان المؤقت حرص، منذ اللحظة الأولى للعدوان على "تحييد" حماس، بإعلانه أن الهجوم يستهدف حركة الجهاد الإسلامي فقط، غير أن الرد من جانب المقاومة كان سريعًا عبر بيان رسمي ممهور بتوقيع "غرفة العمليات المشتركة" والذي أشار إلى أن "الغرفة المشتركة في حالة انعقادٍ الآن وتقدر الموقف بالاشتراك مع الأجنحة العسكرية كافة، ولن نسمح للعدو بالتغول على أبناء شعبنا ولن يفلح بكسر صمود شعبنا ومقاومته".
وكانت "سرايا القدس"، قد أعلنت إطلاق عملية "وحدة الساحات" ردًّا على العدوان الاسرائيلي، باعتبار أن وحدة الفصائل هي الاستراتيجية المطلوبة لردع العدوان، وعزل كيان الاحتلال والتصدي لجرائمه، وهي معركة لمنع العدو من شطب إنجازات "سيف القدس" أو إضعافها، وتكريس تلك الإنجازات تمهيداً للبناء عليها وتطويرها، باعتبارها الثقل الاستراتيجي العسكري الذي يظلّل الساحات كافة.
وكان الناطق بلسان "سرايا القدس" أبو حمزة، قد دعا كل المقاومين والأحرار في الضفة والداخل المحتل، إلى الانخراط في هذه الملحمة التي عنوانها "وحدة الساحات"، ولتكن انتفاضة عارمة تؤسس لزوال العدو وكنسه عن كل فلسطين. وأضاف: "استطعنا أن نجسد أسمى معاني الانتماء لفلسطين الجغرافيا الواحدة، بعيداً عن مشاريع الفصل والعزل والتفرد، وكذلك الوقوف إلى جانب عدالة قضية أسرانا الأحرار".
بالإضافة إلى أن الناطق باسم لجان المقاومة الفلسطينية أبو مجاهد، تحدّث عن تنسيق عال بين فصائل المقاومة الفلسطينية في إطار عملية "وحدة الساحات"، وأن كل فصائل المقاومة الفلسطينية مشاركة بما تمتلك من وسائل في هذه المعركة.
وكان الأمين العام لحركة "الجهاد الإسلامي" قد شدّد على أن المقاومة تهدف من وراء هذه المعركة إلى "وحدة الساحات الفلسطينية... والدفاع عن المجاهدين" وأشار إلى أن "العدو الصهيوني رفع شعارًا واضحًا، وهو تصفية حركة الجهاد وجناحها العسكري"، لكنها "باتت اليوم أقوى، وتفرض شروطها، وهي تثبيت وحدة الساحات، وإطلاق سراح خليل العواودة، والشيخ بسام السعدي". وأضاف إلى أن "حركة الجهاد تحركت للتأكيد على أن الشعب الفلسطيني وحدة واحدة في الجغرافيا والشعب"، و"عنوان "وحدة الساحات" رغم بساطته فإن جوهره كبير جداً ونحن قاتلنا من أجل تثبيت وحماية هذا الشعار."
ب/ الموقف الإسرائيلي من وحدة الساحات
تجدّدت محاولة إعادة تفكيك الساحات، وتدفيع المقاومة وسكّان غزة ثمن إنجاز "الربط" بينها، بحيث عمل العدو خلال المعركة، على شق الصف بتأكيداته استهداف "الجهاد" فقط، وذلك لاستهداف عنوان هذه المعركة وتفريغها من أهدافها في توحيد الجبهات الفلسطينية وتلاحمها. فالمواجهة التي تخوضها حركة "الجهاد الإسلامي" لا تتعلّق بمتغيّرات ظرفية فقط، وإنّما هي جزء من مسار واستراتيجية أوسع نطاقاً وأخطر تأثيرًا على الأمن الإسرائيلي. إذ أن هدف الكيان المؤقت من الضربات التي وجّهها بشكل أساسيّ إلى «الجهاد»، كان محاولة احتواء نتائج معركة "سيف القدس"، والتي لا تزال مستمرة بفعل صمود المقاومة وتصاعد قدراتها. وحاول الاحتلال الإسرائيلي أن يضع "الإعلام الاجتماعي" في أزمة من خلال نشر شائعات وأخبار مضلّلة، تتعلق بتقسيم الجمهور إلى معارض ومؤيد من داخل صفوف المقاومة، عبر تحييد حركة حماس عن دخولها المعركة، والاستفراد في طرف واحد على حساب الأطراف الأخرى.
وإن دلّ ذلك على أمر، فهو ضيق الخيارات الإسرائيلية في التعامل مع قطاع غزة والوضع الفلسطيني، واعتبار "ربط الساحات"، الذي أصبح واقعًا يعيشه الفلسطينيون أكثر من أي وقت مضى، قد أفقده هيبته وفعاليته، وأصبح الكيان المؤقت يكافح من أجل تفكيكه والتحايل عليه بتسهيلات اقتصادية في غزة المحاصرة، تخوّله من افتراس الضفة، والسيطرة على القدس.
كثرت التحليلات الاسرائيلية والاشارات التي دلّت على خبث الكيان في إحداث التفرقة بين الفصائل وكسر شعار وحدة الساحات. فقد اعتبر يورام شفايتسر، رئيس برنامج الإرهاب والمواجهة المنخفضة في معهد أبحاث الأمن القومي، أن "إسرائيل واجهت أصغر وأضعف أعدائها، لذلك يجدر أخذ الدروس الصحيحة بشكل متناسب، وأن حماس ليست مردوعة، بل تضبط نفسها، وتعمل وفق جدول أعمالها ومصالحها هي، سترد عندما تضطر، لاعتباراتها فقط، كما أنها تواصل التسلّح للمعركة القادمة المعلوم انها ستقع، وهي "تتمتع" بمساهمة إسرائيل برفاه سكان غزة، من خلال تشغيلهم ودخول مالٍ قطري ومواد بناء إلى غزة، إلى أن تتغير اعتبارات الكلفة، الجدوى لديها، وانها سترد فقط إذا فرضت الظروف (ضحايا مدنيين أو استهداف عناصرها ...)".
بينما حذّرت صحيفة "هآرتس"، في افتتاحيتها، من أن "جولات القتال الكثيرة تُعلّمنا أنه على رغم التفوّق العسكري لإسرائيل، فإنّ الردع ليس ناجعاً، وفي كلّ ما يتعلّق بالحرب ضدّ الإرهاب، من الصعب جداً قطْع الصلة بين الضفة والقطاع؛ وأن شعار الجيش الإسرائيلي مستعدّ لكلّ سيناريو سبق أن فقد ثقة الجمهور، وأيضاً لم يَعُد بالإمكان مناقشة الدعوة إلى تقويض "البنية التحتية للإرهاب" بجدية. وفي مقال للصحيفة نفسها، ورد فيه "أنه ما دامت حماس خارج المعركة، فإن الضرر (الذي تتكبده إسرائيل) سيكون محدودًا، لذلك من الأفضل أن تتوقف" العملية العسكرية."
كما أشار المحلل السياسي في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، ناحوم برنياع، أن حركة الجهاد الإسلامي "بقيت وحيدة، تتعرض للقوة العسكرية الإسرائيلية الشديدة... وعلى الأرجح أنها ستعيد ترميم نفسها. لكن في الجيش الإسرائيلي هناك من يأمل بسيناريو آخر، وهو أن يفكك قائد حماس في غزة، يحيى السنوار، الجهاد ويضم ناشطيها إلى حماس. وهذا مستبعد لكنه ممكن". وأضاف أنه "لا يوجد فرق كبير في سياسات الحكومات الإسرائيلية تجاه غزة. والسياسة هي فرق تسد، السعي إلى الفصل بين غزة والضفة... والمستوى السياسي الإسرائيلي لن يخاطر بالقضاء على حماس أو بالعكس، تأهيله كشريك. وهو يصلي من أجل الهدوء وليس من أجل حل".
وفي مقال آخر، في الصحيفة ذاتها، أشار كل من عاموس جلعاد وميخائيل ميلشتاين إلى أنه "ينبغي اتخاذ نظرة نقدية تجاه الشرخ الحاد الذي ضربته إسرائيل بين "الجهاد الإسلامي" و"حماس"، صاحبة السيادة في غزة والمسؤولة عن حفظ الهدوء في إطار التسوية، والتي تجلس على الجدار بدلاً من فرض إمرتها على "الجهاد"، هذا فصل يعفي "حماس" من المسؤولية على ما يجري في غزة، يعكس تبني روايتها حول "صعوبة العمل تجاه المارقين"، وعملياً يساهم في العودة إلى واقع الجولات الذي ساد قبل نحو عقد وتقلص منذ عملية "الجرف الصامد" في 2014... في الوقت الحالي توجد لإسرائيل مصلحة في إبقاء "حماس" خارج دائرة المواجهة، المهمة التي ستصبح أصعب فأصعب كلما طالت المعركة، وبخاصة إذا ما وقعت خسائر واسعة في الأرواح في الجانب الفلسطيني، أو وقع اضطراب حول الحرم."
وكان وزير الحرب لدى الكيان المؤقت، بيني غانتس، قد صرّح بأنّ "إسرائيل أبلغت حركة حماس بأنها لا تسعى إلى تصعيد أوسع وأن العملية الحالية تقتصر على أهداف لحركة "الجهاد الإسلامي"، وأضاف "سنواصل الجهود الهجومية ضد حركة الجهاد (في سوريا ولبنان وإيران)".
علاوة على ذلك، قال مسؤولون أمنيون إسرائيليون، ردًا على سؤال وزيرة الداخلية أييليت شاكيد حول سبب عدم قصف الأبراج السكنية في غزة بادعاء أن الجهاد تستخدمها، إن هجمات كهذه قد تجرّ حماس إلى داخل المواجهة، وهذا أمر تحاول إسرائيل منعه. وأشار رئيس الشاباك، بحسب ما نقله موقع واللا العبري، إلى أن العدوان حقق غاية إستراتيجية بالفصل بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي، فيما شدد قادة أجهزة الأمن الإسرائيلية على أنه يجب الحفاظ على هذا الفصل. وقال مستشار الأمن القومي، إيال حولاتا، إن الهدف هو دفع حماس إلى ممارسة ضغوط على الجهاد الإسلامي من أجل وقف إطلاق النار.
وبهذه التصريحات، الصادرة عن عدد من المسؤولين والمحللين في الكيان المؤقت، يكون العدو الإسرائيلي قد عبّر، بشكل واضح، عن نيته في إيجاد شرخ بين حركة حماس والجهاد الإسلامي، وضرب وحدة الصف الفلسطيني، إذ حصر العدو المعركة وضرباته العسكرية فقط ضد الجهاد الإسلامي، دون غيرها، وسعى جاهدًا لتحييد حركة حماس وباقي الفصائل الفلسطينية عن المعركة، وذلك من خلال حصر التصريحات وتوجيهها ضد الجهاد، بالإضافة لاستهداف مواقعها وقادتها دون التوسع واستهداف باقي الفصائل، بالإضافة إلى الوساطات التي ضغط فيها الكيان المؤقت على كل من مصر وقطر، اللتين لعبتا دور الوسيط، ودفعهما للتواصل مع حماس للضغط على الجهاد، وتجنب دخول غمار المواجهة.
لكن حركة "الجهاد الإسلامي" تمكنت من جديد، وعبر هذه المعركة من إثبات قدراتها على إدارة المعركة، وتحدي العدو الذي حاول الاستفراد بها، وعلى الرغم من الضربة القاسية التي تلقتها باغتيال ثلة من القادة المجاهدين، فقد استطاعت الاستمرار في المواجهة ودكّ مدن العدو بالصواريخ الأمر الذي أثار انتباه المعلقين العسكريين الإسرائيليين، وأثبتت للعدو أن المس بالقيادات لا يمس باستمرار مقاومتها وعملها الميداني.
بالإضافة إلى أن الحركة استطاعت، تحميل الكيان المؤقت مسؤوليّة العُدوان، وإظهار فشله في تحقيق أهدافه، بالإضافة إلى إحياء القضيّة الفلسطينيّة مُجدّدًا في عالم ينشغل حاليًّا في حروب عظمى في أوكرانيا وشرق آسيا، وإعادتها إلى العناوين الرئيسيّة من زاوية المقاومة وليس الحلول السياسيّة الفاشلة، كما وإظهار جرائم العدو بقَتْله للأطفال. كما استطاعت ضرب وامتصاص المشروع إسرائيلي لزجّ الخِلاف، وربّما العداء، والمُواجهة بين حركة الجهاد وباقي الفصائل الفِلسطينيّة الأُخرى وعلى رأسها حركة "حماس"، إذ أنها استمرت بالتأكيد في جميع بياناتها وتصريحاتها على "وحدة السّاحات"، في ظل المديح الإسرائيلي لحماس لنأيها بنفسها، وصواريخها، ومُسيّراتها في هذه المعركة، والترويج لعدم مشاركتها في المعركة. وكانت حركة الجهاد قد استنفرت مقاتليها في الفضاء الإلكتروني ليتولّوا إدارة المعركة هناك، فمنذ اللحظة الأولى عملت على ضبط الحالة الإعلامية وفق تعليمات صارمة تفوّت على العدو الإسرائيلي الفرصة لدس الفتنة بين نشطاء الفصائل الفلسطينية عبر تفتيت الهدف الأول من خلال توحيد الجمهور تحت رواية أن المقاومة تجابه ترسانة الاحتلال موحدة، وهذا ما كان واضحًا في الرسالة التي بعثتها حركة الجهاد بتسمية المعركة "وحدة الساحات" كردّ على أي محاولة إسرائيلية لبث الفتن والانقسام والضعف في روح المقاومة الفلسطينية. فمن الصعب جداً تحقيق طموح قطع الصلة بين الضفة وقطاع غزة، وبرغم عدم مشاركة "حماس" في المواجهة الأخيرة، بصورة مباشرة، فقد كان ظلها مخيّماً على مسار التطورات الأخيرة.
ودفع قلق العدو، من إطالة أمد المعركة وتوسيع نطاقها، إلى العجلة في التوصل إلى وقف لإطلاق النار واستدعاء الوساطات العربية القريبة والبعيدة لتفادي إطالة أمد المواجهة. فكان الكيان المؤقت يتهرب من مواجهة شاملة مع الفصائل الفلسطينية تتوحد فيها كل الساحات، إذ لم تعد لديه خيارات واسعة للتعامل مع المقاومة، بحيث أصبحت أقصى طموحاته إحداث الشرخ والقطيعة بين الفصائل، وهو ما لم ولن يفلح به العدو، وكان ذلك واضحًا خلال المؤتمر الصحفي لأمين عام "الجهاد الإسلامي" الذي أشار إلى أن "حماس هي العامود الفقري لحاضنة المقاومة"، وأضاف: "نحن في تحالف مستمر معها لمواجهة العدو، وسنبقى موحدين مع كل قوى المقاومة". ومن هنا، يمكننا القول إن معركة "وحدة الساحات" الفلسطينية ما زالت محصنة بوحدة الفصائل والجبهات، على الرغم من عدم المشاركة المباشرة للعديد منها، إلا أن الجهاد الإسلامي منفردًا بذل كل جهوده واستطاع الحفاظ على هذه المعادلة في وجه كل محاولات الكيان المؤقت لاستهدافها.
الكاتب: غرفة التحرير