يقول إعلامي بارز إنه سأل، مرة، أحد الضباط الأميركيين الذين أتوا إلى بيروت لحفظ الأمن، بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من العاصمة اللبنانية، أواخر 1982، لماذا أتيتم إلى لبنان، مع أنه دولة محرومة من النفط والغاز والمعادن الثمينة والرخيصة، وكان جوابه بضعة تمتمات، فهم منها أن المكان الذي يقفان فيه طافح بالبترول والغاز. ولكن، كيف عرف هذا الضابط أن في لبنان بترولاً وغازاً؟
يأتي الجواب من خبير بترولي لبناني أن الأمر بمنتهى البساطة. فقد استطاعت الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا والاتحاد السوفياتي معرفة مكامن الغاز والنفط في شرق البحر المتوسط، بواسطة نوعين من التكنولوجيا: الأول المسح الزلزالي المتقدم علمياً والمدعَّم بمعالجات إلكترونية، والذي عادة ما تقوم به السفن الحربية الصغيرة وسفن الصيد البحري، والثاني تقنيات الاستشعار عن بُعد، القادرة على اكتشاف مكامن النفط والمياه العذبة والأنهار التي تجري تحت الأرض. وأكثر الدول التي استفادت من الإمكانات العلمية للأميركيين هي مصر التي سارعت إلى اكتشاف الغاز الطبيعي في حوض الدلتا، وعلى ساحله.
وقد أجري، في التسعينيات من القرن الماضي، تحليل زلزالي للساحل اللبناني، بواسطة شركات فرنسية، فكانت نتيجة التحليل إيجابية. وفي الحال، سافر وزير الطاقة إلى الولايات المتحدة، لقراءة نتائج التحليل إلكترونياً، فتبين وجود مكمن نفطي بترولي في الشمال، وآخر في جنوب العاصمة بيروت. وبما أن استخراج النفط من لبنان ممنوع إقليمياً، فقد دفع وزير الطاقة، أسعد رزق، الثمن غالياً عندما عُزل من الوزارة بسبب هذا الموضوع.
وفي أواخر التسعينيات، تكررت حادثة أسعد رزق، إنما بأشكال أخرى، عندما أقدم وزير الطاقة، محمد عبد الحميد بيضون، على التخطيط لمشروعٍ، يقضي باستيراد الغاز الطبيعي من الخارج، خصوصاً من مصر، عبر عدة مشاريع مقترحة، منها مد خط أنابيب في البحر من مصر إلى لبنان. ومنها، أيضاً، مد خط أنابيب من مصر إلى الأردن، فسورية ثم لبنان. ووقع الاختيار على المقترح الثاني. وفتح الوزير بيضون ملف البحث عن الغاز والنفط، فكان أن حُرِمَ من تولي مناصب وزارية مدى الحياة، وربما يعني ذلك، أيضاً وأيضاً، أن البحث عن البترول والغاز في لبنان قرار إقليمي.
منذ بداية العقد الماضي، سعى الرئيس رفيق الحريري إلى استغلال ثروة لبنان البترولية، على ضوء تقرير وضعته شركة سبكترام البريطانية، يقول إن في لبنان مكامن بترول بحرية، ينبغي البدء بعمليات تنقيب متطورة لمعرفة حجمها. وفي الوقت نفسه، ذكرت مصادر شركات بترولية عالمية أن حجم هذه المكامن ليس كبيراً، ولكنها تدفع لبنان اقتصادياً إلى الأمام، وتجعله دولة مستقرة مالياً ونقدياً واجتماعياً.
وفي الوقت نفسه، برزت وجهات نظر أخرى، تقول إن لبنان يملك ثروة غاز ونفط من الحجم الوسط. فالغاز الطبيعي يكفي حاجات لبنان 90 عاماً مقبلة، أما البترول فسيمده بثروة كبيرة. وطبقاً لخبير لبناني يعمل في الخارج، إن مكمن البترول اللبناني الكبير يقع ما بين بر وشاطىء وساحل عكار وبين مدينة البترون عرضاً، ويمتد في البحر إلى مسافة كبيرة. وهناك مكمن جنوب بيروت أصغر حجماً. وفي الجنوب مكامن للغاز الطبيعي على شكل جيوب صغيرة. هذا في الساحل اللبناني، وفي المياه الاقليمية الخاصة بلبنان، لكن النرويجيين أبلغوا لبنان أن في مياهه المجاورة للمياه الإقليمية اللبنانية مكامن نفط وغاز، وإن على لبنان المباشرة، قبل غيره، في عمليات التنقيب، وهذا الكلام يعود إلى عام ٢٠٠٤. فلماذا يمتنع لبنان عن استغلال ثروته البترولية والغازية الموجودة في ساحله ومياهه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الحصرية (EEZ)، وتبلغ مساحات هذه المناطق البحرية ثلاثة أضعاف مساحة لبنان، لذلك، فان مهمة استغلالها تبدو صعبة للغاية.
سُمح للبنان باستغلال ثروته الغازية في المنطقة التي يقول إن الكيان المؤقت انتزعتها منه، غير أن نتائج التحكيم الدولي جاءت لغير صالح لبنان، وبالتالي، فإن الضوء الأخضر الإقليمي سمح بلا شيء. لكن رئيس الجمهورية الاسبق، العماد ميشال سليمان، قال إن لبنان سيبدأ التنقيب عن النفط والغاز في المناطق القريبة، وبالتحديد في المياه الإقليمية، وهو ما قد يعتبر عملاً ممنوعاً، بانتظار الاتفاق مع سورية، على مبدأ تقاسم كل ثروة نفطية وغازية، يثبت أن لها امتدادات في الأراضي والمياه السورية، والعكس صحيح. ولم يأت على ذكر على ثروتنا المغتصبة من إسرائيل.
البروفسوران، أفتيم عكره وغسان قانصوه، وهما عالمان في الجيولوجيا، يعتقدان أن في البر اللبناني بترولاً وغازاً، خصوصاً في عكار والبقاع، علماً أنه جرت عمليات تنقيب في الستينيات، حُفرت في أثنائها سبعة آبار في البقاع، لم تسفر عن اكتشاف شيء، إلا عن شواهد لا تفيد. ووصل عمق الحفر في بعض الآبار إلى نحو ثلاثة آلاف متر. وفي ما بعد، اكتشف البروفيسور عكره صخوراً على شاطىء عكار تنضح بالزيوت، وقال إن هذا برهان على وجود البترول في المياه الإقليمية اللبنانية. بعدها، فوجىء وزير النفط في عام 1974، لويس أبو شرف، بشركات البترول العالمية تطلب منه الحصول على ترخيص بالتنقيب في المياه اللبنانية شمال بيروت. وقد أعطيت تراخيص لشركات مقابل ١٥ مليون ليرة لكل شركة. ثم اندلعت الحرب في 1975 فاختلط الحابل بالنابل، إلى أن أُعيد فتح ملف النفط في بداية التسعينيات من القرن الماضي. بدأت الحكومات تتوالى، والمصالح تتشابك وتتقاطع، على وقع ملف النفط والغاز، والذي ما زال يتوالى مسلسله للوصول إلى خواتيمه.
وذكر الوزير شارل رزق أنه "جرى التحضير لنظام استثمار الغاز والبترول في البحر بتكتم شديد. لكن، علم أن النظام المنوي اعتماده هو نظام الامتيازات الذي يقوم على أن تتعهد الشركة، صاحبة الامتياز، أن تدفع للدولة مانحة الامتياز رسماً أولياً نسبته 12% من قيمة الإنتاج، إضافة إلى ضريبة على الأرباح بنسبة 50% أو أكثر، في مقابل أن يصبح النفط والغاز المستخرجان ملكاً للشركة صاحبة الامتياز. أما نظام الشراكة في الإنتاج فيقضي بجعل الدولة شريكاً كاملاً، ومالكة الثروة المستثمرة، وتأخذ الشركة الأجنبية على عاتقها التنقيب، بعد الاتفاق على نسبة معينة. ويرى خبراء أن نظام الامتياز الذي تم اعتماده يجرّد لبنان، بشكل فاضح، من ثروته النفطية والغازية، فنسبة الرسم الأولي، المعتمدة عالمياً، في ما خص النفط هي 12% حداً أدنى، بينما يتفاوض الفريق اللبناني على نسبة 5%. وبالنسبة إلى الغاز، يحضَّر للاتفاق على نسبة 4%، في حين أنها، عالمياً، تراوح ما بين 12 و15%.
ومن بين الشركات الـ 52 التي تقدمت بطلبات التأهل بصورة أولية، تطلب 14 شركة أن يتم تأهيلها بصفتها شركات مشغلة، أي أن تقوم بأنشطة الحفر والاستخراج. أما الشركات الـ 38 المتبقية، فتطلب تأهيلها بصفتها شركات غير مشغلة، أي أن تتشارك مع الشركات المشغلة في الملكية ونفقات الحفر والتطوير والاستخراج، لكنها لن تكون مسؤولة عن العمليات. وقد قدمت شركات كبرى من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج وفرنسا وإيطاليا والبرازيل وروسيا والهند والصين طلبات تأهيل، بما فيها شركات إكسون موبيل وشيفرون وتوتال، وستات أويل النرويجية وإيني الإيطالية، ولوك أويل وروسنفت الروسيتان، والشركة الوطنية الصينية للنفط البحري.
واللافت عدم وضع دفتر شروط للتلزيم. ويبقى في الانتظار ملفان في إطار قضية النفط والغاز في لبنان، هما:
الملف الاول وهو تصحيح خطأ ترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة مع قبرص، خصوصاً بعد اكتشاف حقل "كاريش" الغازي في المنطقة المحاذية للحدود اللبنانية الجنوبية، وبدء الكيان الموقت التنقيب فيه.
الملف الثاني هو إصدار قانون خاص، يحدد نظام إدارة الصندوق السيادي، ووجهة استثمار العائدات النفطية وتوظيفها واستعمالها، والصندوق السيادي هو الذي توضع فيه حصة الدولة من تلك العائدات، على أن يكون مستقلاً عن الميزانية العامة للدولة، بشكل يؤمن المحافظة على العائدات النفطية والغازية لمشاريع استثمارية طويلة الأمد.
في ظل التطورات والمعطيات في ملف النفط والغاز في لبنان، لا يسعنا القول إلا إنه تم تقسيم جلد الدب قبل اصطياده، في ظل بلد يعيش على وقع هزات إقليمية شديدة، ودولة في مهب الأعاصير، والساسة لا هم لهم سوى تكديس الثروات، والأسوأ عدم وجود شعب لبناني قادر على المحاسبة، بسبب انقسامه وتشتته، نتيجة ولاءاته الطائفية والمذهبية والخارجية، ونخب مثقفة تلعب دور الزبائنية السياسية للعيش على فتات أهل العقد والحل.
الكاتب: غرفة التحرير