يشهد لبنان ظروفاً استثنائية قد تكون الأصعب منذ نشأة هذا الكيان، فالأزمات تعصف به على أكثر من صعيد: اقتصادي، اجتماعي، سياسي وغيرها. وفي زمن يحتاج فيه البلد إلى أعلى مستوى من الاستقرار السياسي والوعي لعمق انعكاسات الازمة على المجتمع والدولة وفعليتها ومستقبلهما، وبخضم الحاجة الماسة إلى تصفير وتسفير الصراعات السياسية الداخلية، نشهد أن الاقطاب السياسية تقوم بعكس ذلك تماماً. هي تؤجج الصراع بدلاً من طرح الحلول. فلماذا؟ هل هذا تكتيك سياسي عميق أم فعلاً النخب الحاكمة تعيش في لالا لاند؟
قد تبدو مسألة الصراعات السياسية الداخلية في لبنان حالياً، وكأنها لعب محترفين على حافة هاوية، لا يسقط أحد منهم البتة، رغم اهتزاز الأرض. إن في لبنان اقلية نخبوية حاكمة هي من محترفي السياسة، مضافاً إليهم مجموعة من الممارسين الهواة. ولكن ليس بالضرورة ان جميع الهواة سوف يسقطهم التاريخ. لا شك ان مستوى الفهم العميق والاحتراف السياسي عنصر أساسي وبالغ الاهمية في ابقاء رواده على المسرح السياسي. لكن ظروف الميدان السياسي وعوامله، بالإضافة إلى طبيعة تركيبة المجتمع تحكم ببقاء بعض الهواة. كل الدول على اختلاف اشكالها وانظمتها (ديمقراطية، استبدادية، ديكتاتورية ...) فيها اقلية تحكم أكثرية. فالنخب الحاكمة تخلق ناديها الخاص الذي من خلاله تعيد انتاج نفسها بالتوريث (من حاكم إلى أبنائه، بيوت سياسية، أحزاب ...). تتصرع تلك النخب فيما بينها دوماً لتقاسم السلطة، ولكنها تتضامن لتحارب النخب القادمة من خارج النادي أي النخب الصاعدة. والتضامن نوعان، الآلي: لا ينتج عن وعي، بل من شعور الإنسان بضرورة الدفاع عن انتمائه الاولي (المناطقي، العائلي، الحزبي...) بصفة غريزية بدون مبرر عقلي وازن، وتضامن عضوي: ينتج من وعي عقلي وارتباط في المصالح. فالمتضامنون هنا يقومون بكل ما يلزم لحماية مصالح النادي العامة الذي بدوره يحمي مصالحهم الخاصة.
إن انتقال جزء من النخب الحاكمة في لبنان عقب اندلاع الانتفاضة في 17 تشرين إلى صفوف المنتفضين وإعلان صارعهم ضد من تبقى من قوى في السلطة، شاهد على ذلك. تلك الخطوة تؤدي إلى انتقال الصراع بين النخب الصاعدة من خلال الحراك وبين السلطة القائمة، إلى صراع داخلي ضمن السلطة القائمة بين موالٍ ومعارض. كما أن خروج رئيس تيار المستقبل، سعد الحريري، من المشهد السياسي لم يُقابل ابداً بالقبول من قبل إيٍ من النخب السياسية الموجودة، بل كان الرفض سيد الموقف (اخصامه السياسيين قبل حلفائه رفضوا ذلك). إن خروجه لابد ان يؤدي إلى فراغ في مكون النادي القائم وبالتالي يُهدد مصالحه، وخاصة إذا حلت محله نخب صاعدة تختلف في تفكيرها ومصالحها عما هو سائد (فساد، محسوبيات، زبانية ...). فإن صعود النخب البديلة تهديد وجودي للنخب التقليدية، حيث ان النخب البديلة تكسر "الستاتيكو" القائم.
بالعودة إلى مسألة افتعال الازمات في ظل الازمة الكبرى، لا شك بأن القوى السياسية الطائفية مستفيدة من النظام القائم لأقصى حد، بالرغم من أننا نعيش أخطر الظروف وادقها على مستوى مستقبل كيان لبنان ودولته وفعاليتها، الا اننا لا نلمس جدية في مقاربات الاستحقاقات كافة. تسعى القوى الحاكمة إلى افتعال أزمات ضمن الازمة الكبرى، فتلهي المواطن عن طموحه في بناء وطنه ومستقبله وتغرقه في تفاصيل حياتية يومية، هي ابسط الحقوق الانسانية. فيستسلم بالنهاية وينتقل من المطالبة بالدولة المدنية القادرة العادلة، إلى اقتحام معامل الكهرباء في محاولة للحصول على بضع ساعات تغذية أكثر. بصراعها المستمر تُدخل المواطن في دوامة من الصراع مع أبناء جلده من أنصار الطرف السياسي المغاير، فتضمن بذلك الحفاظ على نفسها وعلى أعضاء النادي التقليديين.
نختم بأنه يجب على المواطن التنبه إلى ان التغيير الأساسي الذي يجب ان يُبنى عليه هو مرتبط بالوعي الاجتماعي القائم على أساس الانتماء الى الوطن وربط المصالح الفردية بالمصالح العامة.
إذا أردنا ان نصنع تغييراً حقيقياً، لا بد لنا من البدء بتغيير الذهنية الاجتماعية القائمة على التفرقة، والسعي إلى بناء وحدة اجتماعية حقيقية تعرف ان مصالحها مرتبطة بمصلحة المجتمع في انحطاطه وارتقائه.
الكاتب: نضال صافي