يمكن لمتتبع السياسة الدولية وأحداثها المتسارعة وذاك العداء ما بين الشرق والغرب تقييم أبعاد العدائية المتنامية وأسبابها، ولطالما كانت المبادئ الدولية التي تحكم النظام الدولي هي مبادئ مفتعلة صيغت من قبل الأقوياء في المنظومة الدولية والتي كانت تتغير في كل حدث مفصلي بدءاً من وستفاليا (ولاية ألمانية شمال الراين) ونشوء الدولة القومية التي أنهت صراعاً كنسياً طويل الأمد، ورسخت مبادئ جديدة في العلاقات الدولية مروراً بعصبة الأمم المتحدة ومبادئ ويلسون الأربعة عشر التي حكمت العالم وصولاً إلى هيئة الأمم المتحدة ومبادئ الأمن الدولي التي رسخت سلاماً شبه مستقر في عالم ثنائي القطبية انتهاءً بالحرب الباردة وما نتج عنها من أحادية قطبية ومبادئ العولمة الأميركية – الغربية وإيديولوجية ليبرالية قائمة على الفردية والسوق المفتوح والشركات العابرة للقارات التي باتت مبادئها حاكمة شريعة المجتمع الدولي وجميع تلك المبادئ التي سادت مراحل التاريخ البشري كانت صنيعة الأقوياء والمنتصرين.
وما يقوم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم هو صياغة مبادئ جديدة في العلاقات الدولية وبالأحرى تصحيح أخطاء سابقة والاستفادة من الفرص الحالية لخلق ظروف جديدة تجعل من التهديد فرصة، وفي التهديدات الروسية الأمنية والثقافية والدينية والاقتصادية والنقدية وغيرها الكثير من التهديدات التي جعلت من العملية الروسية الحالية في أوكرانيا مسألة حياة أو موت بالنسبة لروسيا ومواطنيها الروس.
يشكل التهديد الديني والثقافي يشكل بعداً جوهرياً للعملية الروسية، حيث بدأ هذا التهديد يطفو على السطح ويؤرق العقلية الروسية حينما تمّ سلخ الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن الكنيسة الروسية، وكانت هذه الكنيسة تابعة للبطريركية الروسية في موسكو منذ العام 1686، ما دفع البعض للاعتقاد بأنَّ التدخل الروسي في أوكرانيا بمثابة "حرب صليبية" لإنقاذ الأراضي الأرثوذكسية المقدسة من حكام كييف "اليهود" والمدعومون من أمريكا والغرب، فقد أعلن الرئيس الأوكراني بوروشينكو في 16 كانون الأول 2018 إنشاء كنيسة أرثوذكسية أوكرانية مستقلة عن الكنيسة الروسية، وقال حينها إن "الأمن الوطني الأوكراني يعتمد إلى حدٍ كبير على الاستقلال الديني عن روسيا"، وكان انفصالها بمثابة الصّدمة للرئيس فلاديمير بوتين ولرئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية البطريرك كيريل، أيضاً، والَّذي دأب منذ العام 1991 على لملمة الصفّ الأرثوذكسي.
كما أنّ استلام كتاب الاعتماد الكنائسي عام 2019 من الكنيسة الأرثوذكسية في إسطنبول (القسطنطينية) والذي منح كنيسة أوكرانيا "الجديدة" الاستقلال سكب زيتاً على النار بما يخص العلاقات ما بين موسكو وكييف، وكذلك ما بين موسكو واسطنبول.
أهمية الهوية الأرثوذكسية
ترتبط الهوية الأرثوذكسية ارتباطاً وثيقاً بالهوية القومية الروسية، وبمشاعر الفخر والاعتزاز والتفوق الثقافي عبر التاريخ، ويمكن ملاحظة أنّ روسيا شهدت نوعاً من النهضة الدينية بالمعنى الايجابي في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، بمعنى أن الناس أصبحوا يشعرون بأنهم تابعون للكنيسة وللمذهب الأرثوذكسي أكثر من ذي قبل، ولطالما اعتبرت السلطات الروسية أنّ الاتباع للكنيسة أمر جيد لتلاحم المجتمع الروسي بشكل خاص والعالم الأرثوذكسي بشكل عام.
في المقابل تمّ تسييس الموضوع الديني من قبل الغرب والولايات المتحدة في محاولة لاستغلال التوجه الروسي نحو الكنيسة وما وراءها من ممتلكات كنسية، ومحاولة ضرب ذاك التوجه وإحداث شرخ داخل الأرثوذكسيين أنفسهم على امتداد الجغرافية التي تحتويهم من موسكو وصولاً إلى بيت لحم، وبدأ الترويج لفكرة مفادها أنّ لكل دولة يجب أن يكون لها كنيسة، وبالتالي تختلف الكنائس باختلاف الدول ما يعني إضعافها في محاولة أميركية – غربية لإضعاف الكنيسة الأرثوذكسية، فكلما كان العالم الأرثوذكسي ضعيفاً يكون هذا أفضل للأميركيين والغرب، وتمّ استغلال أوكرانيا لمحاولات الفصل أو خلق كنيسة جديدة بديلة، وهذا الأمر ينعكس على مجمل الدول التي تحوي هذا المذهب حيث يتوزّع المسيحيون الأرثوذكس خارج روسيا بشكلٍ كبيرٍ في كلٍّ من البلقان والشرق الأوسط، ومعظمهم في سورية ولبنان وفلسطين والعراق وجنوب شرق تركيا، وهنا تكمن خطورة زعزعة الأوضاع ما بين الكنائس كهدف أميركي – غربي ظاهري ويهودي في باطنه، خاصة إذا ما علمنا أنّ يهود أوكرانيا هم من خططوا لفصل الكنيسة هناك في محاولة منهم لإيجاد شرخ في المجتمع الأرثوذكسي كهدف أساسي في العقلية اليهودية ببث التفرقة ما بين المذاهب وإضعافها ووضع اليد على أملاك الكنيسة في بيت لحم عبر تشرذم الكنائس الأرثوذكسية فيما بينها وإضعاف هيمنتها وسلطتها الدينية.
وبالتالي فإنّ روسيا كانت ولا تزال ضد أي تهديد يمس بعقيدتها الدينية، خاصة إذا ما علمنا أنّ الأوكرانيين الأرثوذكس يشكّلون حوالي 25% من مجمل المسيحيين التابعين للكنيسة الروسية، ما يمكن اعتبار انفصال الكنيسة الأوكرانية ضربة قوية لروسيا التي خسرت ملايين الأتباع وملايين الدولارات من أملاك الكنيسة التي سعت كييف للسيطرة عليها حتى شرق البلاد.
ناهيك عن أنّ الرئيس الروسي اعتمد على الكنيسة "كقوة جامعة" تعزّز مصالح الأمة الروسية الأصيلة نظراً لوجود صلات قوية ما بين الكرملين وبطريركية موسكو خلال فترات التاريخ المختلفة، حيث اعترفت اتفاقية "كوجوك كاينارجا" ما بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية في العام 1774 لروسيا بالإشراف على حقوق المسيحيين الأرثوذوكس وهنا ليس فقط الحقوق المعنوية بل والمادية وجميع الممتلكات التابعة للكنيسة الأرثوذكسية، كما استمر الاهتمام الروسي بالأرثذوكس في الشرق الأوسط في عهد الاتحاد السوفياتي الَّذي كان يمارس نفوذه في المنطقة مِن خلال الأرثوذوكس الموجودين فيه، ناهيك عن جمعية الإمبراطورية الروسية الأرثوذكسية الفلسطينية التي أنشأت عام 1914 ولا تزال قائمة حتى اليوم.
وبالتالي كانت أحد أهداف بوتين كما يراها الغرب ليس فقط جمع كل من يتكلم باللغة الروسية ضمن الاتحاد الروسي، بل أيضاً كل من كان يتبع للكنيسة في موسكو، لذلك، بذل بوتين جهوداً كبرى في دعم الكنيسة مادياً ومعنوياً وسياسياً، كاستعادة ممتلكات الكنائس التي بيعت خلال الحقبة الشيوعية، وبناء المئات من الكنائس والكاتدرائيات، وتدريس الثقافة الأرثوذكسية في المناهج الدراسية. كما شيَّد الجيش الروسي بتوجيهات من بوتين كاتدرائية خاصَّة بالجيش في موسكو، تم افتتاحها في أيلول 2020 خلال الاحتفالات بالذكرى الـ75 لانتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية، ولا ننسى زيارة بوتين إلى الكنيسة المريمية في دمشق عام 2019.
أضف إلى ذلك، خطابات بطريرك موسكو التي تحدث فيها عن دور الكنيسة في ضمان وحدة الشعوب الروحية في الدول القائمة على أراضي روسيا التاريخية، وأهميتها في حماية منظومة القيم الأرثوذكسية التي تحملها الحضارة الروسية الأرثوذوكسية المقدسة للعالم، وهو ما يجعل بطريرك موسكو حليفاً عقائدياً مهماً لبوتين.
وهذا ما يفسر تطابق توجُّه الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مع سياسات الدولة الروسية التي ترتبط مصالحها ارتباطاً وثيقاً بوضع المسيحيين الأرثوذكس، بصفتِها "رمزاً للقيم الثقافية المُميِّزة للشعب الروسي" في الوقت الذي تجاهل الغرب "الكاثوليكي" الجرائم الإرهابية التي تعرّض لها المسيحيون في سورية والعراق. وهو ما أشار إليه بوتين في خطابه في أيلول 2015، الذي عبّر فيه عن قلق بلاده إزاء وضع المسيحيين، كما أعلن مرات عدّة أنَّ "روسيا لن تتخلى عن مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط وفي أي منطقة أخرى مِن العالم، وأن قضيَّة أوضاع المسيحيين تُعَدُّ واحدة من هذه المصالح".
بالتالي، بات واضحاً أنّ الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها الغربيين قد أشعلوا "ربيعاً أوراسياً" لخلق المشاكل في أوراسيا "الأرثوذكسية" عبر الثورات "الملّونة" التي أُشعلت هناك، ومحاولة فكفكة التبعية الأرثوذكسية للكنيسة في موسكو، في مقابل "نهوض" المسيحية "الكاثوليكية" وبالتالي بات التهديد ثقافياً واجتماعياً ظاهرياً في باطنه ديني ومذهبي، إضافة لذاك الأمني والاقتصادي.
إن العقلية الروسية ترفض تلك الغربية المنافية للتاريخ الروسي وما يحمله من عادات وتقاليد وتراث تغني الثقافة الروسية وتشكل تهديداً لتلك الغربية التي ألغت ثقافتها بعد أن باتت تابعاً للأميركي والتي قامت على المجازر والوحشية والتنكيل بالسكان الأصليين.. ويظهر العداء للثقافة الروسية من قبل الأميركي والغربي بعد الإجراءات التي رافقت العملية الروسية في أوكرانيا عبر إلغاء جميع الصور أو الكتب العائدة للثقافة الروسية وهو ما يوضح أن التهديدات التي واجهت روسيا في مضمونها هي تهديدات ثقافية – دينية أيضا.
الدور اليهودي
أما الدور اليهودي، فهو عميق متغلغل في كل المفاصل سواء الأمنية أو الاقتصادية أو الثقافية ناهيك عن الدينية حيث نجحت "تل أبيب" في اختراقها جميعاً من دون أن تهمل، و"بذكاء"، استفزاز العداء المذهبي بين المسيحيين، ناهيك عن وجود صراع يهودي - مسيحي بمذهبه "الأرثوذكسي" والذي ظهر في تصريحات زيلينسكي اليهودي الأصل، وكذلك في المواقف اليهودية التي أدانت العملية الروسية، ودور اليهود في التصعيد ضدّ روسيا، واستخدام كنيست يهودي في أوكرانيا لعمليات عسكرية ضدّ الجيش الروسي، وكذا مخاوف اليهود من العملية الروسية وانعكاساتها على الحركة اليهودية العالمية إذا ما علمنا أنّها تمسك بمعظم مفاصل الاقتصاد العالمي، وبالشركات العابرة للقارات وبالمجمعات الصناعية العسكرية والطاقوية، بمعنى أنّ انتصار روسيا "الأرثوذكسية" سيؤثر حكماً على المصالح اليهودية.
في المحصلة، يبدو أنّنا أمام مشهد صراع حضارات وثقافات وأديان.. ومبدأ روسيا اليوم هو الدفاع عن قيمها التقليدية والتراث الثقافي والديني دفاعاً مميتاً وهذه هي أساس العملية الروسية ضد الليبرالية الغربية والتطرف اليهودي..