يقف النظام الدولي على شفير الهاوية، يطوف على السطح ما فيه من تصدعات وخلافات وأزمات على خلفية ما يحدث في الأزمة الأوكرانية، إلا أن ما يحصل ليس وليد ساعة تصاعد الأزمة، فالسياسة الدولية تشهد توترات متصاعدة بين القوى الدولية ليس أقلها منذ الحرب السورية.
أولاً: أسباب التحول في مسار مواجهة القوى الدولية
اليوم لا تنفصل الأزمة الأوكرانية عما يحصل في هذه الساحة التي تتنافس وتتواجه فيها هذه القوى، وما زاد تراكمها وتفاعلها هو إعلان دخول العالم حقبة جديدة من العلاقات الدولية من خلال الإعلان الروسي الصيني الذي يُعد برأينا أحد أبرز العوامل التي أججت الأزمة، وسعي الولايات المتحدة لمواجهة للصين عبر محاصرتها تارة وضرب حلفاءها الاستراتيجيين تارة أخرى، ومنها محاولة احتواء الإدارة الأميركية لروسيا، وتصوير موسكو ايضاً على أنها تهديد رئيسي لا بد من محاصرته في العالم.
الانقسام الحاد بين القوى الدولية، يظهر من خلال التنافس على المصالح اليجوبولتيكية والاقتصادية بين روسيا والصين من ناحية، والولايات المتحدة وحلف الناتو من ناحية أخرى، ما يجعل التفسير الواقعي للعلاقات الدولية يظهر أن النظام الدولي يقترب من الهاوية.
وما يزيد من الصراع وتوتر العلاقات وتصاعد حدة المواجهة هي أن كل معسكر يملك عوامل ومقومات تجعله قادراً على المواجهة، بل قادر على في لحظة ما على اتخاذ قرار يغير مصير كل النظام الدولي، وهذا ما يجعل العالم يدفع تكاليف كبرى لما يحصل، وإن كان لا بد في نهاية المطاف من لحظة حساسة تنهي الهيمنة الموجودة من قبل الولايات المتحدة.
الأزمات أو الصراعات والنزاعات التي تعصف بالعلاقات الدولية، تنشأ نتيجة تناقض المصالح الاستراتيجية للدول الأطراف في مستويات مختلفة، فكيف إذا كنا نتحدث عن إمكانية التغيير في صورة النظام الدولي، لذلك نقول إن الأزمة الأوكرانية هي شكل من أشكال مرحلة التحول الحاصل على صعيد توازنات القوى الدولية.
ثانياً: التأثيرات المباشرة على النظام الدولي
تظهر الأزمة الأوكرانية أن روسيا تبحث عن إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية لجوارها، ووقف توسع حلف الناتو على التخوم الروسية، ما يعني أيضاً رسم خريطة العالم السياسي القادم، كما أن بكين تعيد حالياً رسم خريطة العالم الاقتصادية، بانتظار اللحظة المؤاتية لرسم الخريطة السياسية الخاصة بها، فيما هي تراقب، وإذا كان بإمكان بوتين قضم أجزاء من أوكرانيا، فقد تكون تايوان هي التالية بالنسبة للصين، في حين نشهد أيضاً محاولات أميركية لاحتواء الطرفين في لحظة تراجع النفوذ الأمريكي في العالم وتدني التأثير في النظام الدولي.
ومن الواضح أن الدعم الغربي لأوكرانيا سيقتصر على فرض عقوبات جديدة وواسعة على روسيا، وإمكانية تزويد أوكرانيا ببعض الأسلحة، لكن الغرب لن يلجأ أبداً إلى القيام بعمل عسكري ضد روسيا من أجل أوكرانيا، لأن أي صراع عسكري بين روسيا والغرب (واشنطن والناتو) سيتحول إلى حرب شاملة قد تستخدم فيه الأسلحة النووية، التي ستقلب صورة النظام الدولي، لذلك فإن الغرب بعيد عن المواجهة العسكرية كما هو ضعيف على مواجهة تغيير موازين القوى، وهذا ما يعني أن الردع الأمريكي لم يعد استراتيجية قابلة للتطبيق في الوقت الذي تعمل فيه روسيا بالفعل على تغيير الوضع الراهن بالقوة.
لا شك أن ما يحصل اليوم في الأزمة الأوكرانية، وفي حال توسعه، سوف يمثل ضربة قوية للنظام الدولي القائم على القواعد الثابتة في العلاقات الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي التي ترى بالولايات المتحدة الأميركية قوة الهيمنة المطلقة، ويفتح بالتالي الباب أمام حقبة جديدة من العلاقات الدولية التي من المفترض أن يبدأ معها التغيير في الأنماط الدولية الأخرى.
ومن القضايا المستجدة والتحديات المرتقبة التي لا بد من الوقوف عندها، نتيجة التطورات التي تحصل في الساحة الدولية، هو أن إدارة الصراع بين الدول تقترب في الكثير من الأحيان من الحرب التقليدية، إلى جانب تصاعد التوتر بأشكال أخرى بعيدة عن هذه الحرب.
بالإضافة إلى ذلك فإن المتغيرات الجديدة في العلاقات الدولية، هي ظهور التطورات التكنولوجية والسيبرانية ونوعية جديدة من أدوات الصراع التي لا تقتصر على الأسلحة التقليدية والاستراتيجية بما فيها النووية، إلى جانب ذلك فهناك تسارع في وتيرة انتشار المناطق الرمادية على مستوى العالم.
من الممكن أيضاً أن تؤدي السيطرة على أوكرانيا، أو على الأقل محاصرتها، خاصةً بعد إعلان استقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك من قبل روسيا الى تقويض دور الناتو ومن خلفه الولايات المتحدة في شرق أوروبا، إلا أن ذلك لن يعني الانكسار الكلي للهيمنة، لكن لا شك أننا تحولنا إلى النظام المتعدد الاقتطاب، ومع أن المؤسسات الدولية في العالم لا تزال أحادية القطب حيث تم وضع جميع المنظمات الدولية تحت سلطة الولايات المتحدة، إلا أن هذا من المفترض أن ينتهي بعد إعلان روسيا والصين حقبة جديدة في العلاقات الدولية.
وفق ما تقدم، فإن ما نشهده على صعيد النظام الدولي هو مرحلة انتقالية شديدة الدقة والخطورة في آن معاً، لانها تؤشر إلى بداية تراجع حقبة الهيمنة الأميركية على هذا النظام، لا سيما مع تثبيت روسيا والصين نفسيهما كلاعبين أساسيين فيه، لذلك بات الحديث عن انطلاق حقبة جديدة في العلاقات الدولية أمراً طبيعياً، حيث تتغير السلوكيات الدولية في التعامل مع الازمات وفي حل الصراعات والنزاعات.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
المصدر: باحث وأكاديمي متخصص في العلاقات الدولية
باحث في العلاقات الدولية
Dr.mattarali@gmail.com