يبدو أن الملفات برمتها باتت شائكة ومترابطة من أقصى الشرق حتى أقصى الغرب، وبات صندوق باندورا الذي فُتح في سورية مع بداية العام 2011 صندوقًا عالميًا انعكس بتبعاته على العالم أجمع، وهو الذي شارك فيه أكثر من 80 دولة في حرب صنفت الأشرس بين الحروب لا سيما الحروب الهجينة. واليوم وبعد مرور عقد من الزمن ونيف على هذه الحرب تداخلت الملفات وبات النظام الدولي فوضوياً تحكمه شريعة الغاب.
باتت الجغرافيا السياسية تحكم المصالح الجيوسياسية مع اندثار المبادئ الدولية التي طغت طيلة قرن مضى، فالتعاون الدولي بات شعاراً لا تؤت نتائجه سوى في الحرب حيث تتعاون الدول لغزو دولة أخرى كما الحال في الحرب على اليمن نموذجا.
فيما تلاشت الإيديولوجيات وباتت المساومات عنوان المرحلة الراهنة، وما بين البحر الأسود وبحر الصين الجنوبي وبحر عمان والمتوسط تحتدم السياسات وتتصاعد التوترات وتتعدد السيناريوات وتتحدد الاستراتيجيات وتتغير قاعدة التحالفات وترصّ الصفوف وفق مصالح الكبار، وما وراء البحار تتجهز الجيوش وتدق طبول الحرب منذرة باقتراب دنو أجل النظام العالمي القائم على القطبية الأحادية.
يبدو أن الجميع الآن يناورون على حافة الهاوية، وحل ملف واحد فقط قد تُحل جميع الملفات المترابطة مع بعضها البعض. القضية النووية الإيرانية مثالاً، فهي قضية تتشارك فيه كل من الصين، روسيا، أمريكا، إيران، ألمانيا، فرنسا وبريطانيا، وبمجرد دخولها في الاتفاق النووي يعني أن نتائج المفاوضات ستنعكس على المجتمع الدولي برمته، فالمعضلة تكمن في الوصول لاتفاق يُرضي الجميع، ويكون فيه الربح متساوٍ(رابح-رابح)، إنما القطبة المخفية تكمن في المكاسب التي يمكن تحقيقها لكل فريق مقابل حجم وكمية التنازلات المقدمة.
ولأنّ الاتفاق النووي تم التوصل إليه عام 2015، أي في خضم الحرب السورية فكان الانسحاب الأميركي منه عام 2018 بهدف إعادة خلط الأوراق، بعد أن بدا واضحاً ذاك التحالف الاستراتيجي الذي ظهر ما بين روسيا وإيران والصين خلال الحرب على الإرهاب في سورية. ويبدو أن الحرب السورية أعادت ضبط ساعة المنطقة برمتها، وكذلك أعادت تشكيل قاعدة التحالفات مع بداية عاصفة السوخوي عام 2015 في سورية.
وها هي اليوم إيران تناور في بحر عمان لتأكيد سيادتها البحرية، فيما تناور الصين في بحر الصين الجنوبي وتايوان لتأكيد سيادتها الدولية، وتواجه روسيا في البحر الأسود خططًا غربية لاستباحة الهدوء الروسي، وتحريك بؤر الإرهاب للنيل من الاستراتيجية الروسية التي تفوقت على نظيرتها الأميركية في محاربة الإرهاب، وفي المتوسط تتناحر القوى الأوروبية "الناتوية" لتحقيق مصلحة جيوسياسية تستفيد منها في خلق معابر جديدة للطاقة بعد أن بات الروسي المتحكم بالإمدادات.. فيما يبقى الخليجي والتركي والإسرائيلي خارج نطاق المناورات، ينفذون ما تمليه عليهم راعيتهم، ويسجلون بعض النقاط التي تصب في صالح مشغليهم باعتبارهم أدوات تنفيذية.
بالتالي، فإنّ بداية فكفكة تلك الملفات الشائكة تبدأ من نقطة الاتفاق أو عدم الاتفاق في القضية النووية، ما يعني إما السلم أو الحرب، وما يعكسه من تباطؤ في خطى المفاوضات هو محاولة لكسب الوقت لكل فريق، وتسجيل المزيد من المكاسب والإمساك ببعض الأوراق المتصلة ببعضها البعض.
والصراع المحتدم اليوم هو ما بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية التي تسعى لفرض نفسها كشريك أساسي في القرار الدولي من خلال تفعيل جميع المقومات الجيوستراتيجية، وقد تبنت في السنوات الأخيرة، مواقف في سياستها الخارجية أحيت التطلعات بعودة التوازن إلى النظام الدولي عبر مساعيها في التأثير بالمجريات الدولية والإقليمية الفرعية.
ولتحقيق تلك التطلعات فإن الأنظار تتوجه نحو منطقة الشرق الأوسط والتي تحتل مكانة جيوسياسية مميّزة في السياسة الخارجية الروسية، ومردُّ ذلك إلى ارتباط بقاء روسيا الاتحادية وكيانها بهذا الشرق خصوصاً، بعد المحاولات المستمرّة من طرف الدول الغربية وفي مقدّمتها أمريكا وحلف الناتو على إضعافها ومنعها من استعادة مكانتها في النظام الدولي، وبعثرة التطلعات الروسية في إدارة ملفات المنطقة عبر إشغالها بخاصرتها الأوكرانية والكازاخية وغيرها من دول الحاجز الروسي، إنما ما خفي عن الغرب وأميركا أن روسيا باتت ضليعة بالحرب الهجينة، وما تحاول الولايات المتحدة القيام به عبر إرهاق القوات والسياسة الروسية في حرب حدودية لن تصل إلى مبتغاها طالما أنّ الحرب الهجينة "الجيل الخامس من الحروب" باتت مألوفة لروسيا بعد التجارب المريرة التي عانى منها شعوب منطقة الشرق الأوسط، ومن هنا تركَّزت السلوكيات الخارجية الروسية في المنطقة باتجاه دول محور "المقاومة" وفي مقدّمتها سورية وإيران، لتخترق سياسة العزل المطبَّقة ضدها.
فيما توجهت الولايات المتحدة بسياساتها البراغماتية إلى توجيه اهتمامها نحو الشرق الأقصى لمواجهة النمو الصيني الاقتصادي، وتمدده الجيوسياسي عبر مشروعها الحريري "الطريق والحزام".
في المحصلة، يبدو أنّ الوقت يسير ببطء للوصول إلى اتفاق، إنما نتائج هذا الاتفاق ستنعكس على العالم برمته، وسينتج عنه تموضع قوى جديدة وتحالفات جديدة تؤكد أنّ المجتمع الدولي ليس حظيرة أميركية.
ومن سيقدم التنازلات أولاً هي من نادت بـ"أميركا أولاً" فالداخل الأميركي وما يعانيه من تصدّع في إدارته وبلوغ دين الحكومة الأميركية 29.6 تريليون دولار في كانون الأول 2021، مع الإشارة إلى أن عجز الموازنة الأميركية للربع الثالث من عام 2021 قد بلغ 348 مليار دولار، إضافة لما تعانيه من تضخم يحكم تسارعه بالهزيمة على الحزب الديمقراطي الأميركي سواء في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية المقبلة، وهو ما سيدفعها إلى تغيير سياستها المنتهجة بالعقوبات الأحادية من جهة، ويجبر الإدارة الحالية على مكافحة التضخم من خلال تخفيض ضخ الأموال غير المغطاة، ورفع سعر الفائدة على القروض.
وبالإضافة إلى الإجراءات المذكورة، ربما سنرى ضغطًا قويًا من واشنطن على دول الخليج لخفض أسعار الطاقة، وافتقار السعوديين إلى الأموال سيضعهم في حالة مقاومة شرسة، خاصة مع وجود بدائل في روسيا والصين، وما يرجح نجاح هذه المقاومة هو التراجع الأمريكي الواضح.
إن الحالة الاقتصادية التي وصلت إليها الولايات المتحدة تذكرنا بأزمة الرهن العقاري التي انعكست على العالم أجمع، فإذا استمرت الاتجاهات الراهنة والسياسات الحالية، فهذا يعني أن عجز الموازنة للسنة المالية 2022 سيكون حوالي 1392 مليار دولار. بمعنى أن العجز سيرتفع بنسبة 64%، ويبدو أنه لا يمكن إيقاف تسارع هذا التضخم الذي تسببت به السياسات الأميركية المتوحشة، وسوف نصل حتماً إلى التضخم العالمي المفرط في غضون سنوات قليلة إذا ما استمرت تلك السياسات النرجسية، وهو ما يفسر أن الولايات المتحدة مأزومة اليوم، وبحاجة لتقديم بعض التنازلات لإنقاذ اقتصادها قبل انهياره، وهي اليوم في مواجهة طريق مسدود وخيارين أحلاهما مر، إما الاتفاق مع روسيا والصين وإيران، أو أزمة اقتصادية واجتماعية تنبأ بالانهيار، لا سيما على صعيد الأحادية القطبية العالمية، من هنا كل ما يدور الان هو مجرد دق لطبول الحرب لا جدوى منها، والمرجح هو التفاهم والاتفاق.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع