بدأت الجولة الأولى من محادثات آستانة في العام 2017، وشاركت فيها ثلاث دول هي إيران وتركيا وروسيا. كان من الملفت اختيار دولة رابعة هي كازاخستان لعقد الإجتماع على أرضها، فهي تتوسط الدول الثلاث، وعملياً ليس هناك جنود أو مستشارين منها على الأرض السورية، ولكن كازاخستان قد صدّرت عناصر إرهابية منها إلى سوريا كما باقي دول آسيا الوسطى. ولكن ما الذي نتج عن 17 جولة من المحادثات حتى اليوم؟ وهل لعبت دوراً حقيقياً في إنهاء الحرب على سوريا وبخاصة الدور التركي؟
ما نتج عن اتفاقات آستانة حتى اليوم، هو تسيير بعض الدوريات المشتركة ما بين الجيش الروسي والتركي من أجل تأمين طريق الـM4، والتي توقفت نهائياً بسبب الخروقات التي ارتكبتها مجموعات أردوغان الإرهابية في محافظة إدلب وريف حلب الغربي، وخاصة تلك المتواجدة في جسر الشغور وغالبيتهم من الإيغور، وفي تل أبيض وهم مجموعات من الكزاخ والطاجيك والأوزبك والشيشان والقرقيز. وهي المجموعات التي لا يعرف أردوغان وكل من دفع بهم نحو سوريا إلى أين سيذهبون بها بعد تحرير إدلب. والمشكلة الأكبر أن هذه المجموعات هي التي تدير الإرهابيين المحليين وتعتبر نفسها ذات مكانة أكثر تفوقاً من باقي الجنسيات.
ولم تستطع اتفاقيات آستانة المتتالية الحفاظ على التهدئة، وما زال الدور التركي بقيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اللاعب الأساسي في إدلب، مشبوهاً وهداماً ويمثل جزءاً كبيراً من الأزمة الخانقة. فأطماع أردوغان في الأراضي السورية جزء لا يتجزأ من أسباب دخول الحرب على سوريا وترتبط بشكل مباشر بتحقيق بعض الإنجازات والإنتصارات التي سيعرضها على شعبه في انتخابات 2023 الرئاسية القادمة، والتي تتصادف مع انتهاء معاهدة "سيفر" الثانية والتي قوّضت الكثير من المطامع التركية في مياه شرق المتوسط. ومن الإنجازات المفترضة تحقيق مشروع المنطقة العازلة في عمق 15-30 كم في داخل الأراضي السورية.
أردوغان: تتريك إدلب
وعمل الأتراك منذ العام الماضي على فرض الليرة التركية في أراضي إدلب المحتلة، وعلى التغيير الديمغرافي وطرد الأهالي من المنطقة ونشر اليافطات والإعلانات المكتوبة باللغتين العربية والتركية، وفرض التعليم باللغة التركية إضافة إلى افتتاح جامعتين تركيتين في إدلب. وذلك تجهيزاً لتوطين المجموعات الإرهابية المنخرطة في جيش الإسلام وجيش التحرير وغيرهم، هم وعائلاتهم المتواجدين في مخيمات اللاجئين من تركيا في المنطقة العازلة تحضيراً لربطها بتركيا لاحقاً. وبهذا يثبت أردوغان لأنصاره بأنه بطل الإنتصارات في المنطقة.
وأما الإنتصارات، التي يريد أردوغان تحقيقها، وهو الذي يماطل بتنفيذ بنود اتفاق آستانة حتى اليوم، هو دخوله شريك في سوريا، مع الأميركي أو مع الروسي، لا يهم، وذلك للإستثمار في حقول النفط والغاز السورية والعراقية على حد سواء. فالأطماع العثمانية الأردوغانية في شرق المتوسط كافة لم تعد خافية على أحد! وأهم بنود آستانة التي يماطل في تطبيقها، هي خروج قواته من إدلب، والحفاظ على سلامة ووحدة الأراضي السورية وعودتها إلى حضن الدولة السورية. وحتى العام 2019، كان من المفترض أن يقوم بتسليم النقاط الحدودية للجيش السوري بعد إخراج مسلحيه وتأمين طريق حلب اللاذقية المعروف بـ M4، ولكن ذلك لم يتحقق حتى اليوم.
ولتحقيق مشروع الـ 15- 30 كم عمق كمنطقة عازلة، ما يزال التركي يعمل على تهجير الأهالي من خلال قصف البيوت، الذي قام به مؤخراً كهدية في أول العام الجديد في بلدة أبو راسين والقرى المحيطة بها في شمال غرب محافظة الحسكة. أدى القصف إلى استشهاد عدد من المواطنين المدنيين وإلحاق الأذى في المنازل والممتلكات العامة والخاصة والمرافق الخدمية. كما كان لدى الأهالي، قلق من عدوان واسع يخطط له مرتزقة العدوان التركي، والمتمركزون في منطقة رأس العين المحتلة في محافظة الحسكة والتي تبعد 85 كم عن المدينة. هذا الحادث الأخير يعد مثالاً على ما قامت به القوات التركية مؤخراً، والتي تخالف بمجملها اتفاقات آىستانة المتلاحقة خلال السنوات الخمس الماضية، وحتى آخرها، بعد الجولة 17 في 22- 24 كانون الأول/ ديسمبر في نهاية العام الماضي.
في أول اجتماع في آستانة كانت الفصائل المعارضة المشاركة بالمحادثات بحسب "المكتب الإعلامي لقوى الثورة السورية" هي الفرق الإرهابية التالية: [" فيلق الشام"، "فرقة السلطان مراد"، "الجبهة الشامية"، "جيش العز"، "جيش النصر"، "الفرقة الأولى الساحلية"، "لواء شهداء الإسلام"، "تجمع فاستقم"، و"جيش الإسلام"]. وأما الفصائل الإرهابية التي رفضت المشاركة فهي: ["أحرار الشام"، "صقور الشام"، "فيلق الرحمن"، "ثوار الشام"، "جيش إدلب"، "جيش المجاهدين"، و"حركة نور الدين الزنكي"]. واليوم جميع هذه الفصائل الإرهابية اختفت، وخاصة بعد قطع التمويل السعودي والأميركي عنها. ولم يبق منها سوى جبهة تحرير الشام المصنفة إرهابية، وما يسمى بالجيش الوطني السوري الذي شكله الأتراك، والذي يفترض أن يتسلم أمن المنطقة العازلة.
ما تزال معارضة اسطنبول تشارك في محادثات آستانة وتأمل أن تنتزع إدارة ذاتية في مناطق أعزاز والباب وتل أبيض في ريف إدلب الشمالي بدعم تركي، وهذا ما لن يحدث وما لن تقبل به الدولة السورية أبداً تماماً كما حدث في جلسات آستانة المتلاحقة، وكما سيحدث في الجولة القادمة من الثالث والعشرين من كانون الثاني/يناير من هذا العام. وإذا ما كان هناك آساتانات أخرى فلن يتغير فيها شيء سوى تغيير وجوه الجهات الإرهابية المقاتلة، وتغيير في أسماءها وأسماء المعارضين المشاركين، فيما سيبقى وفد سوريا واحداً ومتماسكاً، وسيبقى الجيش العربي السوري هو صاحب الحق الوحيد في المرابطة على السلاح.
في الحقيقة، أن اتفاقيات آستانة ليست سوى جرعات من المخدر تعطى من أجل التهدئة وبانتظار الحسم العسكري القادم في المنطقة. وإذا ما تحررت مناطق ريف حلب الشرقي وجزءاً من ريفه الغربي، وفي ريف حماة وفي معظم ريف إدلب الجنوبي، فإن ذلك لم يكن أبداً من إنجازات سوتشي أو آستانة على حد سواء أو غيرها، بل كانت نتاج قتال وبطولات استثنائية أبداها كل من الجيش العربي السوري وحلفائه منذ العام 2016 وحتى اليوم. قد لا يكون هناك، وبحسب المصادر، اشتباك عسكري طويل في إدلب، ولكن بالتأكيد سيكون هناك معالجات عسكرية حاسمة وسريعة لتحرير آخر معاقل إرهابيي أردوغان.
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU