مع الانكفاء السعودي-الاماراتي عن لبنان، ومن يدور في فلكهم من الدول الخليجية، تطل تركيا برأسها مستغلة الفراغ الذي خلّفه الغياب "الظاهري" عن البلاد، بعد غيابها النسبي هي الأخرى في السنوات الماضية. حيث تأتي زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، بعد عام على زيارته بيروت بعيد انفجار المرفأ، في لحظة سياسية دبلوماسية واقتصادية صعبة لم يمر لبنان بمثلها في تاريخه.
تعتمد سياسة أنقرة في السنوات الأخيرة على زيادة حضورها الدولي، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال حضورها العسكري القوي في عدد من البلدان حتى تلك التي لا تقع ضمن نطاقها الإقليمي، كتواجدها ونشر قواعدها العسكرية في ليبيا وجيبوتي والصومال وألمانيا إضافة لاحتلالها مناطق في شمال سوريا وتواجدها في العراق. فيما يعتبر لبنان محطة ضمن هذه المحطات، والذي تبحث تركيا فيها على موطئ قدم تعزز من خلالها مشاريعها الاستثمارية والاقتصادية، كونها تمثل أرضية خصبة لما تشهده من أزمات اقتصادية ومالية كبيرة وسياسة تجعل من تعدد الخيارات أمراً ممكناً، إضافة لغناها الطائفي وتنوع الخلفيات ومنها الطائفة السنية، المستهدف الأول بالنسبة لأنقرة، خاصة الشمال اللبناني، وكما كنا قد أشرنا في مقال سابق، فإن أنقرة وخلال الحرب السورية تحديداً وما تبعها، حضرت بشكل لافت على الساحة الشمالية، وصلت إلى حد التدريب العسكري والمد بالعتاد والسلاح، بالتسلل عبر المشاريع الثقافية والإنسانية ومنح الجنسية التركية.
في الواقع، إن العلاقة التي تجمع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي انعكست على العلاقة بين حزب العدالة والتنمية وتيار العزم، حيث كان ميقاتي يعوّل عليها في جلب الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية الى لبنان، يمكن وضعها في خانة "السهل الممتنع"، فميقاتي نفسه يعلم جيداً ان من وصفها يوماً بـ "قبلته السياسية والدينية"، ويقصد الرياض، لن تغفر له خطاياه بالتوجه نحو تركيا والتي بدورها تشبك العلاقات مع قطر، "المغضوب عليها خليجياً" وان تم نفي ذلك.
هذا الأمر يجعل من التعويل على الدور التركي أمراً صعباً، في ظل "الانكفاء السلبي" التي تفتعله السعودية، فهي على الرغم من انها تبدي عدم اهتمام بالساحة اللبنانية، إلا انها تمعن في تعطيل أي مبادرة لا تدور ضمن فلكها، وتركيا أبعد ما تكون عن الفلك السعودية، خاصة بعد الانقلاب الأخير الذي شهدته البلاد وكانت الأخيرة قد تورطت به مباشرة.
لا يمكن وضع النوايا التركية ضمن إطار المصلحة الخالصة للبنان، وهي التي لا تزال تحتل عددًا من المناطق في سوريا والعراق، ولا تنكر نواياها الاستعمارية وإعادة "المجد للإمبراطورية العثمانية"، إضافة لما شهده الشمال في السنوات الماضية، لكن هل سيتم تنفيذ هذه المشاريع الاستثمارية والاقتصادية التي تسعى إليها أنقرة والتي قد لا ترضى بها الرياض غالباً، ولن يرضى بها أدواتها أيضاً، حتى ميقاتي نفسه، الصديق الصدوق لتركيا؟
الكاتب: غرفة التحرير