بدأت الرحلات العربية المكوكية نحو دمشق منذ بداية هذا العام تقريباً من أجل إعادة إحياء العلاقات الدبلوماسية والتجارية معها. ولكن! لم تخرج جميع الدول العربية من سوريا: فالكويت وعُمان لم تقطعا علاقاتهما معها، وقد فتحت السفارة البحرينية في دمشق منذ عدة اشهر، فيما تطورت العلاقات الأردنية - السورية بشكل مضطرد، وتهاتف كل من الملك الأردني والرئيس السوري. أما مصر فهي تجري اتصالاتها الدبلوماسية كذلك، وهناك تحضير لزيارات رسمية بين البلدين.
واخيراً كانت زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى سوريا، وهي فاتحة، ليس فقط للعلاقة ما بين الدولتين العربيتين، بل فاتحة لعودة السعودية بالتأكيد، لكن في ظل هذا الإنفتاح العربي: أين لبنان من سوريا؟ ولماذا لا تغلب الدولة اللبنانية مصالح اللبنانيين وتتعلم، من أين تؤكل الكتف؟
هذه ليست أول مرة تسوء العلاقات فيها ما بين لبنان وسوريا، وإغلاق الحدود ما بين البلدين كان أول مرة بعد مشاركة الرئيس كميل شمعون في حلف بغداد في العام 1955، والتي ما تزال ماثلة في الذاكرة؛ ولكن يبدو أن ما نسيته الذاكرة اللبنانية هو التبعات الكارثية على فلاحي لبنان وصنائعيه وتُجاره، على الرغم من الدعم الدولي الهائل الذي تمتع به الرئيس شمعون. حتى أنّ أمريكا أقرت عقيدة أيزنهاور، التي تسمح لها بالتدخل عسكرياً في خارج البلاد لحماية مصالح حلفائها، وحضرت حاملة الطائرات الاميركية "نيوجرسي" لتضرب المظاهرات المناوئة لشمعون، بسبب دخوله في حلف متعامل مع الغرب وضد فلسطين والعرب، على طول الشاطئ اللبناني.
واليوم أين أصبح لبنان من هذه العلاقة المتذبذبة مع سوريا منذ العام 2005؟ علاقة ساءت لتصل حد القطيعة في العام 2011، ودخل البلد في سياسة النأي بالنفس الفاشلة، التي كان من المفترض أن تنأى عن الصراع الدائر في سوريا، فنأت عن الدولة الرسمية، حيث مرر لبنان الإرهابيين بدعم من سياسييه، وسلحهم، وأضر بجارته العربية، وابتلع ما بين 40 الى 60 مليار دولار أميركي من أموال المودعين والتجار السوريين في البنوك اللبنانية، بحسب الخطاب الذي ألقاه الرئيس بشار الأسد في 17 تموز/ يوليو 2021، تماماً كما ابتلعت البنوك اللبنانية أموال العراقيين واللبنانيين. ومع ذلك، سمحت سوريا في كل مرة وإن كان عبر الوساطات التي قام بها حزب الله واللواء عباس ابراهيم بتمرير المنتجات الزراعية اللبنانية لتصديرها إلى العراق ودول الخليج رأفة بفلاحيه.
لكن هذه السياسة التي اتبّعها لبنان، بنأيه عن سوريا لم تجلب عليه سوى الخيبات، فمنذ العام 2011 وحتى قبل ذلك كنت استمع إلى شكاوى أصحاب المحلات في لبنان بسبب انعكاس العلاقات السيئة عليهم بين البلدين. والإرهاب الذي مرره لبنان إلى سوريا، ضربه في عقر داره تفجيرات وعمليات خطف وقتل لأفراد انتقاماً دون معرفة الغريم. والأكثر من ذلك، بانت نتائج النأي بالنفس في قضية وزير الإعلام جورج قرداحي، والتي تكاد تبتلع آخر معالم السيادة والإستقلال في لبنان لصالح من نأى لبنان بنفسه لأجلهم.
بالطبع هذه القضية ستعود لتطفو على السطح لوقت طويل، وخاصة بعد زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد لسوريا. قطيعة مع سوريا عمرها اليوم عشر سنوات جاءت لصالح الغرب والولايات المتحدة بالذات، وعادت الإمارات متمثلة بدبلوماسيتها لتعيد العلاقات مع سوريا، وفي الظاهر أنها جاءت متجاوزة القرار الأميركي، ولكن في العمق هناك توافق واضح بالإنفتاح العالمي على سوريا الصامدة سياسياً قبل صمودها عسكرياً. والإنفتاح لن يتوقف على الإمارات بل سيبدأ قريباً مع المملكة السعودية التي يجتمع وفدها الامني اليوم مع اللواء حسام لوقا، نائب اللواء علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني، في مصر ضمن فعالية مؤتمر الإستخبارات العربي.
وبدأت العلاقة بين دمشق وأبوظبي، بتوقيع اتفاق من أجل البدء باستثمارات إماراتية في معمل للكهرباء المنتجة من الضوء، والذي يتماشى مع الخطة السورية القادمة باستخدام الطاقة المتجددة لإنتاج الكهرباء عوضاً عن الغاز والبترول. مشاريع استثمار يحتاجها لبنان في ظل أزمة الكهرباء والمحروقات المستفحلة فيه. وقد عاد طيران "أجنحة الشام" ليهبط في مطار أبو ظبي وينقل المسافرين السوريين منها إلى دمشق بشكل مباشر، في حين أنه بعد الأزمة المفتعلة مع الوزير قرداحي، وبسبب ما أبداه لبنان الرسمي من خنوع لمدة عشر سنين، توقف طيران الخليج إلى لبنان.
ولكن هل يعتبر أسياد "النأي بالنفس"، الذين التمسوا من دمشق دخول الغاز المصري والكهرباء الأردنية، الأمر لا يتعلق بحكومة مستقيلة أو غير مستقيلة، الأمر يتعلق بإرادة رسمية للعودة للتعامل مع سوريا. ألا يقرأ لبنان المتمترس وراء العلاقة مع دول الخليج والغرب، في خصامه مع السوري، ماذا يحدث في المنطقة والعالم؟ ألا يعلم لبنان أنه إذا أغلقت سوريا الحدود كما أغلقتها في العام 1955، سترمى منتجات لبنان الزراعية في الطرقات والشوارع، ونحن على أبواب موسم الحمضيات والموز والبطاطا؟، ومن سيعوض على المزارعين: رجال المال والسياسة؟! ولبنان بات مفلساً! فهل ندفع بالبلد أكثر نحو الإفلاس؟
ما حدث في سوريا من حرب لأنها رفضت المساومة على أراضيها المحتلة، وعلى العلاقة مع حلفائها، والتخلي عن المقاومة، وتمسكت بسيادة قرارها، ولم تخضع يوماً لقرارات البنك الدولي، هو درس لبعض الساسة اللبنانيين، أنه كيف تبنى السيادة. لبنان ما يزال ينأى بنفسه عن سوريا، ولا يجرؤا رؤساؤه على زيارتها، أو التوجه نحو الشرق خوفاً من العقوبات الأميركية، وينتظر الغرب ليبني له مرفأه وبنيته التحتية في الكهرباء، ويمنّ عليه بدولاراته لإستيراد المحروقات،ويخضع لشروط البنك الدولي، ومع هذا كله فإنه لم يرض أحداً، ودخل في العتمة الكاملة بانتظار حلفائه من العرب الذين تخلوا عنه في لحظة وقاطعوه.
لقد تخلى لبنان عن امتداده العربي الحقيقي، وبات يتصرف وكأنه لا يعي أن المطلوب رأس آخر معاقل عزته وقوته وهو ما تمسكت به سوريا بيديها وأسنانها، ألا وهو المقاومة وحزب الله وحلفائها وقرارها السيادي. وعلينا ان ننتظر ربما نرى كيف ان أبناءه ورؤوساءه سيضطرون للقدوم من الخليج الى بيروت عبر مطار دمشق الدولي.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
الكاتب: عبير بسّام