تلوّح الولايات المتحدة ب "لوائح العقوبات" كورقة ضغطٍ على كل من يخالف مصالحها في العالم، أو يشكًل منافساً لسياساتها على الأصعدة كافة، وتلفق لمن تضعه على هذه اللوائح تهماً بالفساد وخاصة الفساد السياسي، وفي آخر محاولاتها الضغط على لبنان لتنازلات سياسية، وضعت الخزانة الامريكية يوم أمس النائب جميل السيد ورجلين للأعمال هما جهاد العرب وداني خوري على هذه اللوائح، في حين ان مراكز أبحاث أمريكية صنفت الولايات المتحدة"مركزاً للحكم الفاسد العالمي".
وتعرّف منظمة الشفافية العالمية الفساد بأنه "إساءة استخدام السلطة العامة من اجل تحقيق منفعة شخصية أو كسب خاص"، فيما عرّفه البنك الدولي بأنه "الاستغلال القصدي في إنحراف تطبيق القوانين والأنظمة الواجب مراعاتها من أجل تحصيل منفعة للموظفين الحكوميين وغير الحكوميين وبشكل غير مشروع". ويحدث الفساد في الظل، وبمساعدة عوامل التمكين المهنية مثل المصرفيين والمحامين وكلاء العقارات والأنظمة المالية غير الشفافة والشركات الوهمية المجهولة
كما للفساد أنواع محدّدة تختلف في التعريف والتطبيق عن بعضها والبعض، وإحدى الأنواع الشهيرة هو الفساد السياسي، بحيث يُفترض ان السلوك السياسي "فاسد" عندما ينتهك بعض المعايير الرسمية أو قواعد السلوك التي وضعها نظام سياسي لمسؤوليه العموميين. وبسّطه جوزيف ناي (أمريكي، أستاذ علوم سياسية) عندما "ينحرف عن الواجبات الرسمية لدور عام بسبب الخصوصية".
واشنطن: مركزاً للحكم الفاسد العالمي!
ولعل النموذج الأول في الفساد السياسي في العالم هي الولايات المتحدة، حيث توثّق مصادر بحثية أمريكية العديد من حالات ونماذج الفساد المنشورة في الكونغرس، واكتشف بعض المحللين الأمريكيين خلال معالجتهم لظاهرة الفساد في المؤسسات الرسمية الامريكية أن العديد من الأشخاص الذين عملوا في واشنطن قد ركزوا على تكديس جيوبهم بدلاً من خدمة المصلحة العامة، وخلصوا الى ان واشنطن توفر فرصًا فريدة لكسب المال من خلال الإضرار بالمجتمع وخيانة ثقة الجمهور.
وأصدرت Sunday’s Post شرحاً تفصيليًا لبوبي بيكر، الذي انتهى به الأمر عام 1967 في السجن بتهمة التهرب الضريبي والسرقة والاحتيال. كان بيكر موظفًا في قيادة مجلس الشيوخ، ويتابع التشريعات ومتى سيتم طرحها للتصويت، وبمعرفته الواسعة في مجلس الشيوخ وباستخدام مكره ومهاراته السياسية وبراعته في فن الصفقة، جمع بيكر ثروة تزيد عن مليوني دولار في أنشطته الإضافية من تجارة الماشية والتأمين والعقارات وعمليات المقامرة في منطقة البحر الكاريبي (التي تطل عليه دول المكسيك، كولومبيا، فانزويلا، كوبا...).
يبدو أنها كانت مجرّد البدايات، حيث مع مرور العقود وتعاقب الإدارات في البيت الأبيض وتبدّل الأعضاء في الكونغرس ومجلس الشيوخ، تكرّس الفساد السياسي وصار "فاعل أساسي في السياسية".
الفساد الممنهج: دون خرق القانون!
عام 2008 اكتشف النائب باع بول رايان، من الحزب الجمهوري، أن القطاع المالي على وشك الانهيار، وفقًا لبحث أجراه لمعهد التفكير الاقتصادي الجديد الأمريكي، وجد الباحثون أن النوّاب كانوا "أكثر ميلًا بنسبة 60 % للتصويت لصالح التدخل الحكومي عندما أثرت الأزمة المالية على ثرواتهم الشخصية". وأظهرت الدراسة أيضًا أن البنوك التي يحتفظ فيها أعضاء كبار في لجان الرقابة بالكونجرس ذات الصلة بالتمويل بأسهمهم حصلت على أموال الإنقاذ بشكل أسرع، ولفترات أطول وأرخص من البنوك الأخرى.
وفي شباط 2019، طرحت نائبة الكونغرس ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، إشكالية الفساد السياسي، مما جذب عشرات الملايين من المشاهدين حيث أوضحت مدى سهولة انتقال "الأشرار" إلى الكونغرس عبر التلاعب واستغلال أموال الشركات. وبعد ذلك، بمجرد وصولهم إلى هناك، يقومون بصياغة قوانين للمانحين الكبار ودعم التشريعات لتعزيز محفظة أسهمهم، كل ذلك دون خرق القانون، وطرحت سؤلاً جدياً، ما هو نوع النظام الذي سيسمح لأعضاء الكونجرس بالتغلب ليس فقط على الأمريكيين العاديين في سوق الأسهم ولكن حتى المستثمرين الأسطوريين؟
وتحدث الخبير الامريكي في مكافحة الفساد ماثيو ستيفنسون في أيلول 2020 عن تاريخ الفساد في الولايات المتحدة، وربطها بأشكال متنوعة:
_ أولاً، توفر الماكينات السياسية وظائف لأنصارها، الذين يستخدمون مواقعهم لتوليد دخل غير مشروع لأنفسهم ولرؤساء الأحزاب، وحشد الناخبين لدعم المرشحين المدعومين من الماكينة.
_ ثانياً، أفسدت المصالح التجارية الثرية السياسيين لتلقي معاملة تفضيلية من قبل الحكومة، على سبيل المثال من خلال تقديم رشاوي للمشرعين، أحيانًا في شكل أسهم شركة أو امتيازات خاصة.
ومع تسلّم دونالد ترامب عام 2016 الرئاسة، وبسبب عدم ليبراليته، وميله لإدخال الفساد وتوسيعه حيثما أمكن، اعتبرت أوساط الأبحاث الامريكية ان ولايته كانت تتويجاً لانزلاق الولايات المتحدة على مدى عقود طويلة نحو أن تصبح مركزًا للحكم "الكليبتوقراطي" الحديث والتي تعني حرفياً "حكم اللصوص". وأصبحت أكبر ملاذ خارجي في العالم، مما يسمح للمحتالين والمجرمين بغسل وإخفاء مكاسبهم غير المشروعة، كما تشير هذه الأوساط الى ان الولايات المتحدة أكبر مزود منفرد للشركات الصورية المجهولة في العالم، والسبب هو الفيدرالية: بفضل الهيكل الفيدرالي للولايات المتحدة، يظل تشكيل الشركة خاضعًا للإشراف على مستوى الولاية، وليس في واشنطن.
استثناءات على القوانين لتمرير الرشاوى من جماعات الضغط!
إن القاعدة العامة او "الافتراضية" في مجلس النواب والشيوخ هي أن تلقي جميع الهدايا محظور بشكل عام ما لم تسمح القواعد بذلك، فإن قواعد مجلس النواب ومجلس الشيوخ تسرد أكثر من 20 استثناءً صريحًا للحظر المفروض على الهدايا (23 في الغرفة و24 في مجلس الشيوخ). هذه الاستثناءات تفتح المجال للتأويل وللثغرات القانونية التي يمكن لعضو الكونغرس الاستفادة منها للهروب من المساءلة، حيث يمكنه قبول الهدايا ولو بشكل متفرق وتحت سقف مالي معين لكن الأهم ان لا يكون هو من يطلبها من ممثل جماعة الضغط المعنية بالتواصل معه. تبدو الإجراءات القانونية المنظمة لمسألة تلقي الهدايا والاكراميات مليئة بالثغرات التي تسمح بالتأويل والتفسير وفق لمصلحة المتلقي.
فيما يتعلق بتوفير نفقات السفر أو سداد هذه النفقات لأعضاء ومسؤولي وموظفي الكونغرس، فإن الاستثناء العام يسمح في ظروف محدودة ومعينة وتحت توجيهات محددة، للأعضاء والموظفين بالمشاركة في أنشطة السفر الرسمية، إذا قام أحد أعضاء جماعات الضغط أو الوكيل الأجنبي أو العميل الذي ينتمي إلى جماعة الضغط بالدفع مقابل هذا السفر، أو عندما يشارك عضو جماعة ضغط في التخطيط أو حضور الحدث تتم مناقشة هذا الاستثناء.، هنا أيضا تبقى مسألة المشاركة في المناسبات التي قد يتورط فيها عضو الكونغرس بموافقته وليس خوفا او جهلا بدور جماعة الضغط المعنية فيها، مسألة قابلة للتأويل والتفسير تتشابك فيها المصالح بين عضو الكونغرس وعضو جماعة الضغط.
رأي الشعب الأمريكي بمسؤوليه
وفي استطلاع للرأي نشره موقع "غالوب" (شركة تحليلات واستشارات أمريكية) في2015، رأى غالبية الأمريكيين ان الكونغرس فاسد وفاقد للمصداقية. اذ يبدو أن معظم الأمريكيين لا يثقون في معظم المشرعين لفعل الشيء الصحيح. تعتقد الأغلبية أن معظم أعضاء الكونجرس "بعيدون عن الأمريكيين العاديين" بنسبة 79%، "يركزون على احتياجات المصالح الخاصة" بدلاً من احتياجات ناخبيهم بنسبة 69% و"فاسدون" بنسبة 52%.
الكاتب: غرفة التحرير