دائماً ما يلجأ المنهزم إلى زرع الألغام كوسيلة لإعاقة الخصم وإلهائه حتى يتسنى له توفير الأمان لخروجه، وللحد من حجم المذلّة في تعكيره المتعمّد لفرحة المنتصر، لا سيّما، إذا افتقد الأخير الحكمة في تعامله مع أفخاخ وكمائن غايتها التشظي، وإلحاق أقصى الخسائر به.
هكذا حال أمريكا، التي بدأت فعلياً الانسحاب من دول قد هيمنت عليها، أو كانت الأكثر تأثيراً في أوضاعها على مدار عقود طويلة من الزمن، فاللغم الداعشي عاد ليحرك الفتنة الطائفية في أفغانستان بعد أن خرج الأمريكي وأعوانه خائبين ومتحسرين على آلاف القتلى ومئات المليارات المهدورة عبثاً، وهكذا حال العراق الذي كاد لغم الانتخابات البرلمانية أن يأخذ هذا البلد نحو المزيد من الإنهاك والتفكك، ولا ندري ماذا سيخرج الساحر الأمريكي من قبعته بعد انسحابه الحتمي من اليمن وسوريا.
يعدّ لبنان العقدة الأشد حفراً في الوعي الأمريكي، فهذا البلد الصغير جداً في حجمه، والعظيم جداً في تأثيره، وبالتحديد، في العقود الأربع الماضية، بات بينه وبين الأمريكي سجل طويل من المواجهة وأشكال النزال، بدءً من مشهد الجيوش والأساطيل الأطلسية وهي تخرج ذليلة في الثمانينات، مروراً بالمحتل الإسرائيلي – أيقونة القيم الغربية- كيف احتفل باندحاره عن لبنان وكأنّه وٌلد من جديد، وصولاً إلى الصفعة المدوية التي تلقتها الهيبة الأمريكية على الحدود السورية اللبنانية مؤخراً وليس آخراً.
إنّ الحرب هي الصفة الواقعية لما يدور الآن بين الأمريكي وأعدائه في لبنان، ولأنّه مضطر للانسحاب من المنطقة، فقد استعاض عن وجوده المباشر بألغام متعددة الأحجام والأنواع زرعها في هذا البلد، وهو بالتأكيد- أي الأمريكي- إنّما زرعها كي تنفجر، لتحقق ما عجز عنه مباشرة، والسؤال: كيف سيتعامل اللبنانيون مع هذا التهديد، هل سيتركون هذه الألغام تنفجر وتشظي اجتماعهم، أم سيعملون على تفكيكها؟
وفيما تقضي العقلانية بدواً العمل على تشخيص هذه المفخخات، ورسم خريطة واقعية لانتشارها ومستويات تهديدها، كمقدمة لازمة للشروع في تحرير لبنان واللبنانيين من شرورها، فإن الأمريكي ومفخخاته قد أعانونا بوعي أو بلاوعي، مباشرة أو بالايحاء، على تحديد معالم العديد منها.
القاضي بيطار نموذجاً لافتاً عن حجم ما بلغه الأمريكي من دهاء، بحيث استطاع أن يخترق مؤسسة القضاء التي تعد الضمانة الأهم، والملاذ الأخير للمظلوم حين يعجز عن إثبات براءته، وهنا لا أقصد حتماً الدفاع عن الوزراء والنواب المستهدفين من قبله، بل الطريقة المريبة التي يدير بها سير عمله، ما يجعل المواطن يشعر برعب مخيف على نفسه وعائلته وكل من يحب، بأن القضاء اللبناني لمّا وقع بيد الأمريكي فأين منه فساد السياسي والمالي والاقتصادي.
لقد أيقظ القاضي البيطار في ذاكرة اللبنانيين تلك الواقعة العار، حين أودع أربعة من كبار الضباط في السجن بأمر قضائي فاسد لمدة أربع سنوات، فعندها بات مفهوما كم يعيش الفاسدون بأمان في لبنان، وكم يوغلون في فسادهم على الرغم من أوجاع اللبنانيين وضيق سبل العيش أمامهم.
وهل من باب الصدفة أنّ سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية يتصدر المدافعين عن القاضي بيطار، ولا يتردد بقتل من يقف في وجهه مندداً، فهذا المتعهد للحروب والفتن والجرائم إنما يحتاج إلى قضاة من سنخيته، ويعرف جيداً بأن القضاء حين يكون نزيهاً سوف يصدر بحق جرائمه أحكاماً مبرمة، وأنه ما نال العفو إلّا بقرار سياسي فاسد.
من حسنات ما يجري، أنّها فتحت الأعين على حقل الألغام الأمريكي الأهم والأخطر في لبنان، والذي يبدو أنّه خلف كل الحقول الأخرى، في السياسة والمال والاقتصاد، وأنّ أي مجهود لمحاربة الفساد في هذه المجالات هو مضيعة للوقت قبل العمل على تفكيك الألغام المزروعة في القضاء اللبناني، والقاضي بيطار نموذجاً.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
الكاتب: د. احمد الشامي