منذ اللحظة الأولى لانطلاق الحرب "الإسرائيلية" على غزة، لم يكن الهدف المعلن – كما في كل الحروب السابقة – هو الهدف الحقيقي. فالحديث عن "القضاء على حماس" أو "تحرير الرهائن" ليس سوى ستار إيديولوجي يُخفي تحته الدوافع البنيوية للمشروع الاستيطاني الصهيوني، الذي يرى في كل تهدئة مؤقتة فرصة جديدة للتهويد، لا للسلام- كما يدعى.
لكن في الأسابيع الأخيرة، بات تصعيد جيش الاحتلال في غزة أكثر شراسة، رغم اقتراب المفاوضات من لحظة حاسمة. هذا التناقض الظاهري، الذي يبدو كمن يزرع في الأرض وهو يعلن الرحيل عنها، ليس إلا تكرارًا للمسلكية الكولونيالية التي خبرها العالم في كل معارك "إسرائيل": حين تفشل في الانتصار، تحرق الأرض.
صورة النصر الوهمي: حين تصبح المجازر استراتيجية
ما يقوم به جيش الاحتلال اليوم ليس تصعيدًا عسكريًا فحسب، بل تصعيد رمزي يهدف إلى "ترميم الهزيمة"، وتقديم صورة نصر لمجتمع "إسرائيلي" مأزوم، ولطبقة سياسية متآكلة، في مقدمتها بنيامين نتنياهو، الذي لم تعد محاكمته في لاهاي شبحًا قانونيًا، بل حقيقة تلوح مع كل تقرير دولي وكل صرخة من غزة.
الصورة التي يسعى الاحتلال لالتقاطها اليوم قبل الانسحاب هي جزء من تسويق داخلي لنجاح عملية "عربات جدعون"، التي لم تحقق أهدافها المعلنة، بل كشفت عن عجز فادح في مقاربة الحرب التقليدية ضد حركة مقاومة غير تقليدية. ولهذا، فإن الأرقام التي يروج لها جيش الاحتلال – مثل قتل 20 ألف مقاتل أو تدمير 3 ألوية مقاومة – ليست سوى محاولة لتعويض الإخفاق السياسي والعسكري بسردية دموية، تقوم على الإبادة وقتل الأطفال والنساء، لا الإنجاز.
الانسحاب كتكتيك لا كموقف: سياسة الأرض المحروقة
ما يسبق الانسحاب "الإسرائيلي" من بعض مناطق القطاع هو فعل تدميري بامتياز. فالهدف لم يعد كسر شوكة المقاومة، بل إخلاء المناطق من أهلها، وهدم البنية التحتية للوجود المدني الفلسطيني. وهو ما يفسر استهداف الطواقم الهندسية بكثافة، إذ أن مهمة هذه الفرق لم تعد بناء التحصينات أو حماية القوات، بل حرفيًا تسوية الأحياء السكنية بالأرض قبل المغادرة.
بعبارة أوضح: يريد الاحتلال أن يغادر غزة وهو يخلّف وراءه حفرة سوداء، لا مدينة. وهي تكتيكات استعمارية معروفة، تم اعتمادها في حروب سابقة – من جنوب لبنان إلى سيناء – حيث تم تعويض العجز العسكري بحرب نفسية قائمة على محو الجغرافيا وتدمير البيئة الحاضنة للمقاومة.
المفاوضات كاستمرار للحرب بوسائل أخرى
إذا كانت المعارك الميدانية في غزة لم تهدأ، فذلك لأن ما يجري ليس مجرد حرب، بل تفاوض بالنار. فـ"إسرائيل" – شأنها شأن جميع القوى الاستعمارية – لا تدخل المفاوضات إلا على جثث. هي لا تعرف السياسة إلا كامتداد للقوة، ولا تفهم من الدبلوماسية إلا ما يخدم ميزان الردع.
من هنا نفهم التناقض بين الحماسة الظاهرية للتفاوض، واستمرار العمليات العسكرية على الأرض. فالمطلوب من هذه العمليات ليس تحقيق اختراق عسكري، بل فرض شروط على طاولة التفاوض. فكل حي يُدمر، وكل مقاتل يُستشهد، هو في نظر المؤسسة الأمنية "ورقة ضغط"، تمامًا كما كان تجويع المدنيين في الشمال وجنوب القطاع أو منع دخول المساعدات وسيلة تفاوضية.
"عربات جدعون": المشروع الفاشل بامتياز
العملية العسكرية التي تحمل اسم "عربات جدعون" وُلدت من رحم خطاب توراتي مزيّف، لكنها سرعان ما ارتطمت بواقع فلسطيني لا يقبل الخضوع. منذ انطلاقها قبل أكثر من 45 يومًا، اعتمدت هذه العملية على تكتيك قضم الأرض تدريجيًا وتفادي الخسائر. لكن النتائج جاءت معاكسة: عشرات الجنود قُتلوا، عدد كبير منهم بعبوات ناسفة، والمعركة تحوّلت إلى حرب استنزاف لا يمكن حسمها.
ومع تعثّر "عربات جدعون"، بدأت المؤسستان العسكرية والسياسية في "إسرائيل" بالحديث عن "الانتقال إلى مرحلة جديدة"، وهي تعبير رمزي عن الفشل، ومحاولة للهروب إلى الأمام بتحميل المستوى السياسي مسؤولية فشل العملية، أو التذرّع بالخطر على حياة الجنود الأسرى.
نتنياهو في الزاوية: حين تتقاطع العدالة الدولية مع المقاومة
في قلب كل هذا المشهد، يقف نتنياهو أمام هاوية سياسية وقانونية. فالملف المرفوع ضده في المحكمة الجنائية الدولية جعله أكثر توحشًا، وأقل قدرة على المناورة. الرجل يدرك أن الهزيمة في غزة لا تعني فقط سقوط حكومته، بل احتمالا واقعيًا لملاحقته دوليًا.
ولهذا، يراهن على قلب الطاولة قبل فوات الأوان: يريد أن ينهي العملية العسكرية بصورة رمزية تُرضي الجمهور المتطرف في الداخل، وتؤمن له مخرجًا سياسيًا يُتيح له البقاء، ولو إلى حين. فالمطلوب من الحرب لم يعد النصر، بل النجاة.
الخسائر في الجيش "الإسرائيلي": الصمت يتكلم
اللافت في التقارير الأخيرة هو حجم الخسائر في صفوف جيش الاحتلال، والتي تجاوزت 30 قتيلاً في فترة قصيرة، بينهم من سقطوا بعبوات ناسفة محلية الصنع. هذه الأرقام تُشير إلى أن المقاومة لا تزال تمتلك زمام المبادرة في كثير من النقاط، وأن سياسة "الأرض المحروقة" لم تُضعف البنية القتالية كما تدّعي "إسرائيل".
إن قتل 21 جنديًا بعبوات ناسفة خلال أيام، يذكّرنا بأن الفلسطيني، ولو كان محاصرًا، لا يزال قادرًا على تحويل التراب إلى سلاح. وهذه الحقيقة، لا تستطيع أي عملية عسكرية أن تمحوها.
ما بعد الحرب: هل تملك "إسرائيل" خطة؟
بعد كل جولة عدوانية على غزة، يُطرح السؤال نفسه: ما الذي تريده "إسرائيل" حقًا؟ فإذا كان النصر مستحيلاً، والانتصار الكامل غير قابل للتحقيق، فما الهدف من كل هذا الدمار؟
الجواب يكمن في البنية النفسية والسياسية للمشروع الصهيوني: هو مشروع لا يقوم إلا على الحرب، ولا يستمر إلا بالتوسع. ولهذا، فإن كل حديث عن "وقف إطلاق نار دائم" أو "حل سياسي شامل" هو في النهاية أضغاث أحلام ما لم يَصْدُق المجتمع الدولي، ويُجبر "إسرائيل" على الانصياع لقواعد القانون والعدالة.
غزة تقاوم والعالم يتفرج
ما يجري في غزة اليوم هو جولة جديدة من سلسلة طويلة من الحروب الاستعمارية التي تخوضها "إسرائيل" ضد شعب محتل. لكن ما يجعل هذه الجولة مختلفة هو أن المجتمع الدولي، للمرة الأولى منذ عقود، بدأ يتلمّس حجم الجريمة، ويستفيق – وإن ببطء – من سباته الأخلاقي.
وإذا كانت آلة الحرب "الإسرائيلية" قد نجحت في تحويل مدن كاملة إلى ركام، فإنها لم تنجح في كسر إرادة المقاومة. بل على العكس، كلما زاد الدمار، زاد الإيمان بعدالة القضية.
ولعل هذا هو ما تخشاه "إسرائيل" أكثر من أي شيء آخر: أن تنتهي الحرب، وتبقى غزة واقفة.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com