في فترات الحروب والتوترات، لا تقتصر المعركة على الميدان العسكري، بل تمتد إلى ميدان الإعلام، حيث تتحوّل المعلومة إلى أداة ضغط، والخبر غير الدقيق إلى وسيلة تطويع سياسي. في لبنان اليوم، وبينما تتصاعد التهديدات ضد المقاومة، نشهد تزايداً ملحوظاً في نمط ممنهج من التضليل الإعلامي، يهدف إلى خلق مناخ من القلق والضغط النفسي، سواء على جمهور المقاومة أو على قيادتها.
يُضخ عدد كبير من الأخبار غير المؤكدة حول حشود عسكرية مزعومة، وخلايا نائمة، واحتمال وقوع هجمات متزامنة، في وقت يُعاد فيه طرح مسألة نزع سلاح المقاومة بصيغ غير مباشرة. فكيف يُستخدم التضليل الإعلامي كسلاح في مثل هذه اللحظات، وما أهدافه، ولماذا علينا التعامل معه بحذر شديد؟
تعريف التضليل الإعلامي
التضليل الإعلامي هو استخدام وسائل الإعلام لنشر معلومات غير دقيقة، أو ناقصة، أو مشوّهة، بهدف خداع الجمهور، والتأثير على آرائه وسلوكياته ومواقفه، بما يخدم جهة سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية.
التضليل في الحروب
التضليل الإعلامي في الحروب هو أحد أدوات السيطرة على الرأي العام، عبر التلاعب بالحقائق، تضخيم الوقائع، وتوجيه الأنظار إلى تهديدات مفترضة، غالباً دون دليل قاطع. وهو يهدف إلى تطويع جمهور الداخل، وإغراقه بالأخبار المليئة بالشائعات والأكاذيب، وتشويش إدراكه لما يجري. وفي السياق اللبناني الراهن، تُستخدم هذه الأداة بكثافة لخلق شعور عام بأن المقاومة باتت محاصَرة، وأن الساحة الداخلية غير آمنة، ما يدفع الناس نحو القلق، ثم الشك، ثم المطالبة بالتراجع أو التسليم السياسي.
التضليل كأداة استراتيجية
لا يقتصر خطر التضليل الإعلامي على ما يُقال في العلن، بل يكمن فيما يُراد تمريره من خلاله دون أن يُقال مباشرة. ففي كثير من الحالات، يكون الهدف من التضليل هو بناء سردية تمنح العدو مبرراً جاهزاً لتنفيذ خطوات عسكرية أو سياسية مخطط ومعد لها مسبقاً.
ما يظهر للعيان كـ "رد فعل" يكون في الحقيقة مقدمة مدروسة لهجوم أو تصعيد محسوب. على سبيل المثال، في 7 أكتوبر 2023، ادعى الاحتلال أن حركة حماس اقتحمت حفلاً موسيقياً في المستوطنات المحاذية لقطاع غزة وقتلت 500 مستوطن، في سردية استُخدمت لتبرير المجازر الجماعية في غزة منذ الساعات الأولى.
لكن لاحقاً، كشفت تقارير ميدانية وشهادات من داخل الكيان نفسه أن العدد مبالغ فيه بشدة، وأن العديد من القتلى سقطوا بفعل قصف الطيران الإسرائيلي نفسه للحفل.
نموذج آخر أكثر وضوحاً كان في تموز 2024، عندما ادعى جيش الاحتلال أن حزب الله قصف ملعباً للأطفال في بلدة مجدل الشمس المحتلة، وأن الاستهداف كان متعمّداً. لكن مع تتابع التحقيقات، تبيّن أن ما أصاب الملعب هو صاروخ اعتراضي أطلقه الاحتلال نفسه، وانفجر قرب الموقع، مما سبب الانفجار. رغم ذلك، استخدم الاحتلال هذا التضليل ذريعة للرد عبر استهداف الضاحية الجنوبية، وتم اغتيال القائد فؤاد شكر، لتتوالى بعدها الأحداث تدريجياً نحو اندلاع الحرب المفتوحة في أيلول 2024.
أما النموذج الثالث، فهو ما يُمارَس بشكل مستمر من خلال الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي، الذي يوجّه تهديدات مباشرة إلى سكان مناطق معينة في لبنان، داعياً إياهم لإخلاء منازلهم بحجة وجود "منشآت أسلحة" تحتها. هذه الرسائل – رغم عدم وجود أي دليل عليها – تُستخدم لاحقاً كمبررات لضرب أحياء سكنية أو منشآت مدنية، ويروّج لها كأنها استهداف مشروع مسبوق "بتحذير"، بينما هي في الحقيقة خطة جاهزة للتدمير والضغط على بيئة المقاومة.
جيش (الجولاني) على الحدود؟
من أبرز نماذج التضليل المستخدمة مؤخراً، ما يُروَّج عن حشود عسكرية تابعة "لجيش الجولاني" قرب الحدود اللبنانية - السورية، واستعداد "خلايا نائمة" للتحرك في مناطق لبنانية مختلفة، وتهديدات مباشرة بموجات إرهابية. ورغم أن احتمال حدوث هذه التحركات غير مستبعَد أمنياً، إلا أن طريقة تضخيمها إعلامياً، تكشف أن الهدف ليس التوعية، ويجب البحث بالخفايا التي تراد منها مثل الضغط على تسليم السلاح، خلق جو من التوتر النفسي في المناطق المؤيدة للمقاومة، إظهار أن استتباب الأمن الداخلي مرتبط بالتخلي والابتعاد عن المقاومة وربما باللجوء إلى خيارات التطبيع والسلام. في هذا السياق نلاحظ أن القنوات التلفزيونية ووسائل الإعلام غير المؤيدة للمقاومة هي التي تنشر وتروج لهذه الأخبار. ومعرفة ما ينطوي عليها من المخاطر ضروري جداً.
التضليل: سلاح قديم بأدوات جديدة
ما يحدث اليوم في لبنان، من تهويل أمني وعسكري منظم، عبر الادعاءات، يُشبه إلى حد بعيد ما استخدمه الأمويون مع أهل الكوفة، حين أرهبوهم باسم "جيش الشام"، وهددوهم ببطش لا وجود له في الحقيقة، فقط لكسر إرادتهم، وإجبارهم على السكوت لتنفيذ مصالحهم الخاصة. يُقال إن كثيراً من الناس تراجعوا عن نصرة الحق في كربلاء ليس لأنهم كانوا ضد الإمام الحسين، بل لأنهم صدّقوا روايات التهديد وانصاعوا لها بدل أن يحتكموا إلى المنطق وترجيح الوقوف إلى جانب الحق ولو كان ذلك على حساب الأنفس. لذا فالتضليل هو أداة من أدوات العدو ويجب إدراك ما يراد من خلفه بدل الاستماع والانصياع له وتصديقه بما في ذلك من خدمة للعدو.
الكاتب: غرفة التحرير