يعيش الكيان واحدة من أكثر الأزمات السياسية حدة في تاريخه، حيث تتشابك العوامل الداخلية والخارجية لتشكّل تحديات غير مسبوقة لنظامه السياسي. هذه الأزمة التي تفاقمت في السنوات الأخيرة، قد تؤدي إلى زعزعة استقرار المؤسسات القانونية والدستورية، وربما إلى استقالة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومواجهته لمحاكمة قد تغير المشهد السياسي برمته.
نحن أمام أزمة سياسية ودستورية ومؤسساتية متفاقمة، وعامل هذه الأزمة بدايةً دور نتنياهو الأساسي فيها، لكن منشأها الأكثر دقة هو برنامجه السياسي الداخلي التغييري لاستكمال الهيمنة على مؤسسات الكيان وعلى جهازها الإداري. هذا الأمر هو الذي أنتج هذا الشرخ إلى جانب ما نتج عن الحرب على غزة وعلى لبنان وتداعيات الحربين. ويبقى ما يتعلق بالمحكمة العليا مرهون بما سيندرج عن قراراتها من تداعيات حساسة ودقيقة في المرحلة المقبلة.
أوّلا: معالم الأزمة السياسية والمؤسساتية
1- التعديلات القضائية والانقسام الداخلي:
منذ وصول حكومة نتنياهو اليمينية إلى السلطة في 2022، سعت لإجراء تعديلات جذرية في النظام القضائي، تهدف إلى تقليص سلطات المحكمة العليا. وقوبلت هذه التعديلات بموجة من الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة، حيث اعتبرها المعارضون محاولة لإضعاف القضاء وترسيخ سلطة الحكومة.
2- ملفات الفساد ضد نتنياهو:
يواجه نتنياهو اتهامات بالفساد والاحتيال وخيانة الأمانة، مما زاد من الضغوط السياسية والقضائية عليه. مضافاً إليها محاولة لتأجيل أو إلغاء محاكمته مما زاد من التوتر بين السلطة التنفيذية والقضائية.
3- التحديات الأمنية وتصاعد الصراع في غزة:
شكلت الحرب على غزة وما تبعها من تداعيات أمنية وسياسية اختبارًا كبيرًا للحكومة. وأنتجت توترات متزايدة مع المجتمع الدولي، خاصة بعد الانتقادات الأمريكية والأوروبية لانتهاكات حقوق الإنسان.
4- الانقسام في الائتلاف الحاكم:
تحالف نتنياهو يضم أحزابًا يمينية متطرفة ودينية، وهو ما أدى إلى تباينات في وجهات النظر بشأن السياسات الداخلية والخارجية، وبدأت بعض الأحزاب تعبر عن امتعاضها من سياسات الحكومة، مما يزيد من احتمالات تفكك الائتلاف.
5- الضغط لإقالة مستشارة المحكمة العليا ومستشارين كبار في الكيان:
- يسعى نتنياهو وائتلافه لإقالة مستشارة المحكمة العليا، معتبرين أنها تعرقل الإصلاحات القضائية وتحد من سلطة الحكومة. يأتي هذا الضغط ضمن محاولات تقليص دور المحكمة العليا التي طالما اعتُبرت الحصن الأخير للديمقراطية الإسرائيلية.
- يشهد الكيان حاليًا أزمة سياسية وقانونية حادة تتمحور حول محاولات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإقالة مسؤولين كبار في الجهازين القضائي والأمني، مما أدى إلى تصاعد التوترات بين المؤسسات الدستورية والسياسية في البلاد.
- في خطوة غير مسبوقة، سعى نتنياهو إلى إقالة كل من رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، رونين بار، والمدعية العامة، غالي بهراف-ميارا. جاءت هذه التحركات بعد انتقادات وُجهت لهما بشأن فشل الاستخبارات في منع هجمات حماس في أكتوبر 2023. وقد أثارت هذه الإقالات المحتملة احتجاجات واسعة، حيث حذّر قضاة سابقون في المحكمة العليا من احتمال اندلاع "حرب أهلية". تدخلت المحكمة العليا وأصدرت أمرًا قضائيًا مؤقتًا بوقف إقالة رونين بار، مع استمرار النظر في قانونية هذه الخطوات.
تعكس هذه الأزمة هشاشة التوازن بين السلطات في الكيان، وتسلط الضوء على التوترات بين السلطة التنفيذية والجهاز القضائي. إذا استمرت هذه الصراعات دون حل، فقد تؤثر سلبًا على استقرار النظام السياسي وتؤدي إلى تآكل ثقة المواطنين في المؤسسات الدستورية.
يمرّ الكيان بمرحلة حساسة من الصراع بين المؤسسات الدستورية والسياسية، مع تداعيات محتملة على مستقبل نتنياهو وحكومته، وكذلك على النسيج الداخلي للمجتمع الإسرائيلي.
ثانيًا: تداعيات الأزمة سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا
هذه القرارات والسلوكيات التي يعتمدها نتنياهو وائتلافه الحاكم ستقود إلى:
1- ارتفاع الاحتجاجات الشعبية: تستمر المظاهرات الحاشدة في مختلف المدن الإسرائيلية، حيث يعبر المتظاهرون عن رفضهم للإقالات والتغييرات المقترحة في الجهاز القضائي، معتبرين أنها تهدد الديمقراطية وتؤدي إلى تآكل استقلالية المؤسسات.
2- تعميق الانقسام الداخلي: تعمقت الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث يرى بعض المحللين أن هذه الصراعات الداخلية قد تنذر باندلاع "حرب أهلية" إذا لم يتم التوصل إلى حلول توافقية.
3- تعميق الأزمة الاقتصادية: يشهد الكيان الإسرائيلي اضطرابات اقتصادية متسارعة نتيجة التطورات السياسية الأخيرة، مع تصاعد التحذيرات من خبراء اقتصاديين ومؤسسات مالية بشأن تداعيات ما وصفه تقرير نُشر في صحيفة "كالكاليست" بمحاولة انقلاب يقودها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ضد مؤسسات الدولة. وبدأت الأسواق المالية في التفاعل مع هذه الأحداث بشكل مباشر، مما ينذر بموجة أوسع من التراجع في النمو الاقتصادي وتزايد التضخم والعجز. وبحسب كالكاليست، فقد سجّل الشيكل يوم الجمعة تراجعا حاداً في غضون ساعات، في حين شهدت البورصة الإسرائيلية انهيارا فاق 3%، رغم الإعلان عن صفقة ضخمة لشركة "ويز" التي تعد الأضخم في تاريخ الشركات الإسرائيلية. كما تراجع سعر السندات الحكومية بالشيكل بنسبة 5.5% خلال أسبوع واحد، مما يعكس نقصا في الطلب وارتفاعا في العوائد من 4.1% إلى 4.5%.. تشير التقديرات إلى أن عودة الحرب إلى غزة والتصعيد السياسي الداخلي سيؤديان إلى ما يلي:
- ارتفاع التضخم بشكل مفاجئ نتيجة ضعف الشيكل وارتفاع أسعار السلع.
- ازدياد عجز الموازنة بسبب الإنفاق الدفاعي وتراجع الإيرادات الضريبية.
- انهيار فرص الاستثمار نتيجة فقدان الثقة الدولية في استقرار النظام.
- ركود اقتصادي وانخفاض النمو المتوقع لعام 2025.
ورغم الأزمة، تصر الحكومة الإسرائيلية على تمرير ميزانية عام 2025 التي تتضمن تخفيضات قاسية في الإنفاق على الصحة والتعليم والرفاهية، مقابل إنفاق "سخيف" على مكاتب حكومية زائدة، ورحلات الوزراء، وأموال سياسية تُعرف بـ"الميزانيات الائتلافية"، تُمنح للأحزاب الدينية مقابل دعمها السياسي، وفق وصف الصحيفة. ونتيجة لذلك، سيواجه الاسرائيلي حسب الصحيفة:
- انخفاضا في جودة الخدمات العامة.
- تآكلا في القدرة الشرائية بسبب ارتفاع الأسعار.
- عبئا ضريبياً أكبر لتغطية العجز المتزايد.
- ارتفاعا في الفوائد على القروض السكنية والاستهلاكية.
ويشير تقرير "كالكاليست" إلى أن "إسرائيل لم تعد تواجه أزمة اقتصادية تقليدية، بل أزمة متعددة الأبعاد، سببها الرئيسي قرارات سياسية تهدد بتقويض استقرار الدولة، مؤسساتها، ونموها الاقتصادي. وفي ظل هذه المعطيات، قد تكون الأشهر المقبلة حاسمة في تحديد مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي، ولكن المؤشرات حتى الآن تدعو للقلق وليس للتفاؤل".
4- تعميق الأزمة مع المحكمة العليا: في 8 أبريل 2025، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قرارًا بتجميد إقالة رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، رونين بار، ومنعت تعيين بديل له مؤقتًا. هذا القرار جاء ردًا على محاولة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إقالة بار، مما أثار جدلاً واسعًا وأدى إلى تصاعد الأزمة السياسية والدستورية في الكيان الإسرائيلي:
- تدخل السلطة القضائية في قرارات السلطة التنفيذية: قرار المحكمة العليا بتجميد إقالة رئيس الشاباك يُبرز التوتر المتزايد بين السلطتين التنفيذية والقضائية في إسرائيل. هذا التدخل يُنظر إليه على أنه محاولة من القضاء للحد من صلاحيات الحكومة التنفيذية، مما يثير تساؤلات حول توازن القوى بين السلطات.
- انقسام داخلي وتوترات سياسية: شهدت الساحة السياسية الإسرائيلية انقسامًا حادًا، حيث اعتبرت المعارضة قرار المحكمة انتصارًا للديمقراطية، بينما وصفه وزراء اليمين بأنه تهديد للسلطة التنفيذية. هذا الانقسام يُعمّق الأزمة السياسية ويزيد من حالة الاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي.
- اتهامات بمحاولة ترهيب المؤسسات: وسائل الإعلام الإسرائيلية ركزت على ما وصفته بمحاولات نتنياهو "لترهيب الجميع وإنشاء قضاء خاص به"، في إشارة إلى سعيه للسيطرة على المؤسسات القضائية والأمنية. هذا التوجه يُثير مخاوف بشأن مستقبل الديمقراطية وسيادة القانون في البلاد.
تداعيات قرار المحكمة العليا على حكومة نتنياهو:
- تقويض سلطة رئيس الوزراء: قرار المحكمة يُعتبر ضربة لنتنياهو، حيث يحد من قدرته على اتخاذ قرارات حاسمة بشأن التعيينات والإقالات في الأجهزة الأمنية، مما يُضعف موقفه السياسي.
- تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية: الجدل الدائر حول إقالة رئيس الشاباك واستجابة المحكمة لذلك يُسلط الضوء على التحديات التي تواجهها حكومة نتنياهو، ويزيد من الضغوط الداخلية من المعارضة والمجتمع المدني، بالإضافة إلى الانتقادات الدولية.
- إمكانية اندلاع أزمة دستورية: في حال استمرار التوتر بين الحكومة والمحكمة العليا، قد تتفاقم الأزمة لتصبح أزمة دستورية حقيقية، خاصة إذا قررت الحكومة عدم الامتثال لقرارات المحكمة، مما قد يؤدي إلى شلل مؤسسي.
فيما يتعلق بمستقبل العلاقة بين نتنياهو والمحكمة العليا:
العلاقة بين نتنياهو والمحكمة العليا تمر بمرحلة حرجة، حيث يسعى نتنياهو إلى تعزيز سلطته وتقليص نفوذ القضاء، بينما تحاول المحكمة الحفاظ على استقلاليتها ودورها الرقابي. هذا الصراع قد يؤدي إلى مزيد من التوترات والإجراءات القانونية المتبادلة، مما يُعقّد المشهد السياسي والقانوني في الكيان، وبالتأكيد سيكون له تأثير كبير على مستقبل الصراع السياسي في الداخل بل قد يؤدي إلى ما هو أخطر من ذلك.
بناءً على ما سبق، يتضح أن الأزمة الحالية تعكس تحديات جوهرية في النظام السياسي والدستوري الإسرائيلي. لقد أصدرت المحكمة العليا قراراها داعية إلى منع الإقالة (رئيس الشاباك) أو تعيين بديل أو حتى قائم بأعمال. وإلى إلزام الحكومة باحترام العلاقة المهنية المعتادة مع بار. كما مطالبة بار بتقديم إفادة سرية للمحكمة، ونتنياهو بتقديم رد مكتوب مدعّم بالوثائق بحلول 24 أبريل. أمام ردود أفعال الحكومة حول هذا القرار التي لم تكن راضية به، هناك سيناريوهات متوقعة في الأيام المقبلة حيث:
- قد تضطر الحكومة إلى تقديم الاتهامات لبار رسميًا وإجراء جلسة استماع جديدة.
- خيار آخر هو الاتفاق على آلية انتقالية حتى انتهاء التحقيق في "قطر غيت".
- وفي حال تعثرت التفاهمات، قد تصدر المحكمة العليا قرارًا نهائيًا حاسمًا.
وهذا الأمر إن حصل بالتأكيد لن يزيد الوضع السياسي والدستوري والأمني إلا تعقيدًا وتفاقمًا سيؤثر على المؤسسات وعلى بنية النظام الداخلي للكيان ومستقبله.
الكاتب: غرفة التحرير