خلال الأيام القليلة الماضية، عاد الحديث مجدداً عن مقترح مصري جديد لوقف إطلاق النار في غزة. الاقتراح الذي تم تداوله في كواليس دبلوماسية مغلقة، بدا وكأنه يحمل تطمينات لجميع الأطراف، أو هكذا أُريد له أن يظهر. لكنّ القراءة المتأنّية لموقعه الزمني ومناخاته السياسية تُظهر بوضوح أنه لا يُعنى بإنهاء الحرب قدر ما ينصرف إلى تثبيت ما أفرزته هذه الحرب من وقائع عسكرية وميدانية لصالح إسرائيل.
فالحديث عن هدنة، في هذا التوقيت تحديداً، يأتي في لحظةٍ تواصل فيها إسرائيل هجماتها المركزة في رفح وجنوب القطاع، بينما تُمعن في محاصرة الفلسطينيين وتجويعهم وتجريدهم من الحد الأدنى من مقومات الحياة. وبينما تسوّق هذه العمليات تحت عنوان "القضاء على البنية التحتية لحماس"، تبدو الغاية الأعمق هي إحكام السيطرة على القطاع وتفريغه من أي قدرة على المقاومة، سواء المسلحة أو السياسية.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض، لا يبدو مهتماً كثيراً بفرملة الآلة العسكرية الإسرائيلية. صمته الواضح، وغياب أي موقف أميركي فاعل أو حتى قلق معلن، يمنح إسرائيل ضوءاً أخضر غير مباشر لمواصلة ما بدأته منذ 7 أكتوبر عام 2023، مستفيدة من الفوضى الإقليمية والانقسام الدولي.
في هذا المشهد، تلعب القاهرة دور الوسيط الحذر، إذ تطرح مبادرات وتُبقي على خيوط التواصل مع الجميع. هذا الدور المصري ليس جديداً، لكنّ خصوصية التوقيت، وتركيبة المرحلة، تمنح أي مبادرة تخرج من العاصمة المصرية حمولة سياسية مضاعفة. من الواضح أن مصر تدرك صعوبة إقناع إسرائيل بوقف العمليات من دون تقديم حوافز حقيقية، وهو ما يجعل المقترحات المطروحة أشبه بتسويات جزئية لا تعالج أصل المشكلة، بل تتعامل مع نتائجها كأمر واقع لا بد من تنظيمه.
بالتوازي، تظهر السلطة الفلسطينية في رام الله كطرف يُراد له أن يستلم "غزة الجديدة"، منزوعة القرار السياسي والعسكري، بعد إخضاعها وترويضها بالكامل. هذا السيناريو، الذي تُسهم أطراف إقليمية ودولية في تمهيد الطريق أمامه، ليس بعيداً عن تصورات قديمة سعت إسرائيل لترسيخها منذ انسحابها الأحادي من القطاع عام 2005، لكنها اليوم تجد الفرصة سانحة لتنفيذها عبر واجهات محلية، وتحت عباءة "الشرعية الفلسطينية".
ما يجري لا يُشبه المفاوضات التقليدية التي عرفناها في مراحل سابقة من الصراع. هذه المرة، تدور المفاوضات حول شكل غزة المقبل، حول مَن يحكمها، ومَن يضمن أمن الحدود، ومَن يملك قرار الحرب والسلم فيها. كل بند يُناقَش اليوم، من شكل الإدارة المدنية إلى ترتيبات المعابر والمساعدات، يأتي مقروناً بشرط أساسي: لا سلاح، لا مقاومة، لا مشروع سياسي خارج الإطار القائم.
لكن ما تُخطّط له إسرائيل من مكاتب تل أبيب، لا يبدو قابلاً للمرور بسهولة على أرض غزة. ورغم المجازر والحصار والتجويع، ما زالت المقاومة الفلسطينية، بكل تفرعاتها، حاضرة. المعركة لم تعد فقط مع الاحتلال، بل مع بنية دولية تحاول أن تفرض على الفلسطينيين هزيمة سياسية، بعد أن فشلت في فرض الهزيمة العسكرية.
وفي هذا الخضم، تأتي المقترحات الدبلوماسية كمحاولات لشراء الوقت، لا لإنهاء المأساة. المقترح المصري، لا يملك وحده القدرة على إحداث خرق حقيقي ما لم تتوفر إرادة دولية تجبر إسرائيل على وقف عدوانها والاعتراف بحقوق الفلسطينيين. وإلا، فإن ما يُحضّر في الغرف الخلفية سيأخذ شكل "إعادة إعمار مشروطة"، و"إدارة أمنية هجينة"، و"تهدئة ممتدة" تُمكّن إسرائيل من مواصلة هيمنتها بأدوات أقل كلفة.
غزة اليوم ليست فقط مساحة محاصَرة تُحارب من الجو والبر، بل هي عنوان مركزي في الصراع على شكل فلسطين المقبل. إنّ أي هدنة لا تعيد الاعتبار للحق الفلسطيني، ولا تحترم التضحيات الكبرى التي قدمها أهل القطاع خلال الأشهر الماضية، لن تكون سوى مقدمة لجولة أشد قسوة من التصفية السياسية.
لهذا، فإن اللحظة الحالية لا تحتمل المجاملة، ولا تحتمل التبسيط. هي لحظة تتقاطع فيها الحسابات الكبرى، بين مشروع إسرائيلي واضح في استهدافه، وإرادة فلسطينية تصرّ على البقاء والصمود، مهما كانت الكلفة.