في عالم تسوده هيمنة غير معلنة، تكتمل أركان الجريمة حين يتواطأ الصمت مع القنابل، وتغدو حقوق الإنسان خطابًا فارغًا يتلوه القتلة بعد الانتهاء من المجازر. ما يحدث في غزة لم يعد حربًا، بل مخططًا ممنهجًا لتفكيك مجتمع بأكمله، وشطب وجوده من التاريخ، ضمن معادلة استعمارية جديدة تعيد إنتاج منطق “الأرض دون شعب لشعب دون أرض”، ولكن بنسخة ما بعد حداثية، أكثر وقاحة وتطورًا.
الاستراتيجية العسكرية: من التكتيك إلى التهجير المنهجي
الهجوم "الإسرائيلي" لا يسير ضمن منطق المعركة المفتوحة بين جيشين، بل يتحرك وفق خطة استعمارية متدرجة، تعيد إلى الذاكرة منهجيات القضم الاستيطاني والتطهير العرقي. فالتوغل البرّي الذي بدأ كـ”جسّ نبض”، ليس إلا المرحلة الثانية من مشروع الاحتلال الممتد. القضم البري، المصحوب بتدمير منهجي للبنية التحتية، يهدف إلى تقسيم قطاع غزة إلى ثلاثة أقسام، وفرض واقع جديد يعزل المدنيين عن المقاومة، ويحاصر الحاضنة الشعبية، تمهيدًا لإعادة تشكيل المشهد السكاني.
ليست العمليات العسكرية إلا غطاءً لمشروع طويل الأمد: تجريد المقاومة من العمق الشعبي، واستنزاف ما تبقى من قدرة المجتمعات المحلية على البقاء. كل خطوة عسكرية، كل محور توغل، وكل أمر إخلاء، لا يحمل فقط بعدًا ميدانيًا، بل يعمل كأداة هندسية لتفكيك النسيج المجتمعي الفلسطيني وتحويله إلى وحدات منفصلة يسهل خنقها.
القوة مقابل الوجود: عندما تصبح الصواريخ خطابًا سياسيًا
قصف أسدود بالأمس وتل أبيب منذ أيام ليس حدثًا عسكريًا تقنيًا فحسب، بل رسالة وجودية. حين تستهدف المقاومة المدن المحتلة، فهي لا تبحث عن توازن قوى ميداني، بل تفرض معادلة رمزية: “نحن هنا، رغم كل شيء”. هي محاولة لإعادة كتابة السردية، ليس عبر البيانات، بل عبر الصواريخ.
ورغم الحصار الخانق، فإن القدرة الصاروخية للمقاومة -وإن كانت محدودة ومُحاصرة- لا تزال قادرة على تعطيل المطارات، وعلى إجبار الاحتلال على إعادة حساباته. إنها المعركة من أجل تثبيت الذاكرة والحق، حتى لو كانت تكتيكًا مؤقتًا لا يعادل آلة الحرب المتوحشة التي تُمطر القطاع نارًا.
الهندسة الديموغرافية: منطقة عازلة أم مقبرة جماعية؟
المنطقة العازلة التي يخطط لها الاحتلال ليست إلا مشروعًا قديمًا يُعاد تسويقه. هي محاولة لتحويل غزة إلى مجرد هامش أمني محكوم بالرقابة والاحتلال الدائم. التوغل إلى عمق 1100 متر في خمس نقاط، والتموضع داخل مناطق مثل نتساريم، بيت حانون، الشجاعية، ورفح، يشكل مجازًا جغرافيًا لقطع شرايين القطاع.
لكن الأخطر من ذلك هو ما يرافق هذه العمليات من عمليات “إخلاء قسري”، يرافقها استهداف للمدنيين الفارين. وكأن الاحتلال يحاول أن يطبق نظرية “الحرق الكامل”: لا أرض، لا بشر، لا أفق للعودة. وتكمن خطورة الوضع في عودة آلاف المدنيين إلى الشمال تحت وعود وهمية، ليجدوا أنفسهم وسط مناطق قتال، يُستَخدَمون وقودًا لحرب لا تنتهي.
الحرب النفسية: أبو عبيدة والتغريدة التي تزلزل تل أبيب
في مشهد سريالي، تُقصف المدن في غزة على مدار الساعة، بينما تُعطّل مطارات الاحتلال بسبب تغريدة أو رشقة صاروخية. هذا ليس عبثًا، بل امتلاك للرمز في معركة محتدمة على المعنى. تدرك المقاومة أن خطابها قد لا يصل إلى صناع القرار العالمي، لكنها تصر على خلق صدع نفسي داخل بنية الاحتلال، بأنهم ليسوا في مأمن، وأن الحرب ليست بعيدة عن أسطح أبراج تل أبيب.
هنا تصبح الحرب حربًا على السردية، ويصبح أبو عبيدة، بصوته الذي يتردد عبر قنوات المقاومة، ندًا حقيقيًا لجنرالات الاحتلال الذين يختبئون خلف لغة القوة التدميرية.
الصمت العالمي: أخلاقيات مدفونة تحت أنقاض الإنسانية
الغرب الرسمي، بقيادة الولايات المتحدة، لم يعد مجرد متفرج، بل شريك أصيل في الحرب. الدعم “الكامل” المعلن من واشنطن، والذي بررته المتحدثة باسم البيت الأبيض، لا يعبّر فقط عن انحياز سياسي، بل عن سقوط أخلاقي مدوٍّ. فبينما يُقتل الأطفال، وتُباد عائلات بأكملها، يتم الحديث عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وكأن المجازر سلوك دفاعي، لا إبادة جماعية.
أما الاتحاد الأوروبي، فاختار اللغة الرمادية، التي تبرر الاحتلال تحت قناع الدبلوماسية. بيان “يستنكر” القصف و”يأسف” لرفض حماس تسليم الأسرى، دون أن يُحمّل الاحتلال المسؤولية عن إعادة إشعال الحرب. هذه اللغة التواطؤية ليست مجرد تقصير، بل مشاركة في الجريمة، عبر التغطية على المجرم وتوجيه اللوم للضحية.
الطفولة المذبوحة: عندما يصبح الجوع سلاحًا
الجرح الأعمق في جسد غزة ليس فقط القصف، بل الجوع. في ظل الإغلاق التام للمعابر، تحولت شاحنات المساعدات إلى ديكور مأساوي على الجانب المصري من معبر رفح، بينما يتضور أكثر من مليون طفل جوعًا. تصريحات يونيسف ومنظمة أنقذوا الأطفال ومفوض الأونروا، لا تُحرّك ساكنًا في منظومة دولية باتت تعتبر المجاعة أداة من أدوات الضغط العسكري.
هذا القتل البطيء، الممنهج، لا يقل إجرامًا عن الغارات الجوية. بل إنه أكثر قسوة، لأنه يحدث على مرأى العالم، في وضح النهار، ويُنفذ عبر سياسة الخنق الجماعي: لا دواء، لا طعام، لا ماء. إنها حرب إبادة تُمارس بأسلحة متعددة، من القنابل إلى البيروقراطية الدولية المتواطئة.
المرحلة الجديدة: من الاحتلال المؤقت إلى الاحتلال الدائم
ما نراه ليس حربًا تنتهي بانتصار أو هزيمة. بل إعادة صياغة كاملة للواقع الفلسطيني، وإعادة تعريف للاحتلال بوصفه واقعًا دائمًا ومفروضًا بالقوة. التغيير في نمط العمليات "الإسرائيلية" من “اضرب واهرب” إلى “ادخل وابقَ”، يعكس الرغبة في فرض واقع جديد: واقع العزل، التجزئة، والتطهير الصامت.
وهنا، يتوقف الزمن في غزة، حيث لا تعني الأيام سوى عدّ للموتى، وعدّ عكسي لحياة تُسحق تحت جنازير الدبابات.
غزة ليست فقط قضية شعب، بل مرآة لضمير العالم. وما يُرتكب فيها اليوم، تحت سمع وبصر النظام الدولي، هو جريمة من النوع الذي سيُذكر لاحقًا، لا كمأساة فقط، بل كعار. إن لم تُوقف هذه الحرب، وإن لم تُفكّك منظومة الصمت والتواطؤ، فإن الإنسانية بأسرها ستكون قد وقّعت على شهادة وفاتها الأخلاقية.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com