لن ينفكّ الفشل الاستخباري الذي قلل من شأن قدرات حماس، مثار بحث وتحليل على الرغم أنه ليس الأول منذ بدأ الصراع العربي الإسرائيلي. وعلى الرغم من أنّ الضباب لا يزال كثيفًا لكن الأمر الواضح أن هجوم حماس جاء بمثابة مفاجأة صادمة. تم اختراق الجدار الحدودي الإسرائيلي عالي التقنية الذي تبلغ تكلفته مليار دولار بسهولة وسرعة. وتشير التقارير الأولية إلى أن المقاومين استخدموا أسلحة غير متطورة لتجاوز أمن الحدود بطائرات بدون طيار وجرافات وقنابل رخيصة، وأنهم حلّقوا على متن طائرات شراعية ودراجات نارية وفي عربة غولف. جاء الهجوم عن طريق الجو والبر والبحر، وانتشر المقاومون عبر مواقع متعددة، في وقت واحد. وهو الأمر الذي تُجمع التحليلات على أنه يتطلب تخطيطًا دقيقًا وتنسيقًا ووقتًا وممارسة.
في مقال تحت عنوان كارثة الاستخبارات الإسرائيلية تقول الكاتبة إيمي زيغارت وهي مؤلفة كتاب "الجواسيس والأكاذيب والخوارزميات: تاريخ ومستقبل الاستخبارات الأمريكية". تقول إنه على الرغم من صعوبة الكشف عن الهجمات الإرهابية لـ "الذئاب المنفردة"، ونسميهم الأسود المنفردة، إلا أن احتمال مهاجمة حماس لإسرائيل لم يكن حدثًا بعيد المنال من البجعة السوداء، دبره خصوم مجهولون في أراض بعيدة. وكان هذا بالضبط نوع السيناريو الكارثي الأسوأ الذي كان من المفترض أن يقلق مسؤولو الاستخبارات والدفاع الإسرائيليون بشأنه ويخططون له ويمنعونه.
وتعرض الكاتبة بأن هجوم حماس ليس الأول الذي تخطئ فيه دولة بتقدير هجوم كارثي لعدوّها. إذ شنّت اليابان هجومًا مفاجئًا مميتًا على بيرل هاربور عام 1941، مما أدى إلى تدمير أسطول المحيط الهادئ الأمريكي، ودفع روزفلت إلى إعلان الحرب، وفي النهاية أدى إلى ظهور وكالة المخابرات المركزية. وأهدرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ووكالات مخابرات أمريكية أخرى 23 فرصة لإحباط مؤامرة القاعدة في 11 سبتمبر أيلول التي أودت بحياة نحو 3 آلاف شخص وأصابت الولايات المتحدة بصدمة وأدت إلى حروب في أفغانستان والعراق. لقد فوجئت إسرائيل نفسها منذ ما يقرب من 50 عامًا حتى اليوم، عندما هاجمتها القوات المصرية والسورية خلال عطلة يهودية وأشعلت حرب يوم الغفران.
وترى زيغارت، أنه على الرغم من أن كل هجوم مفاجئ فريد من نوعه، إلا أنه يشترك في سمتين مشتركتين: فهي أحداث تبعية ذات عواقب جيوسياسية متتالية طويلة الأجل، وهي ليست مفاجآت حقيقية تقريبًا. وتقول، دائمًا ما يجد تشريح الجثة أن علامات الإنذار كانت موجودة، ولكن كان من الصعب تحديدها قبل وقوع الكارثة. السؤال هو لماذا تم تفويت هذه العلامات، وكيفية القيام بعمل أفضل في المرة القادمة.
ثم تطرح الكاتبة مجموعة من الأسئلة والسؤال الأول، هو ما إذا كانت هذه الكارثة الاستخباراتية في المقام الأول فشلا في التحذير أم فشلا في التصرف. ثم تعطي مثالًا عن أوكرانيا. المهمة الأولى لوكالات الاستخبارات هي منع المفاجآت الاستراتيجية. ولكن لكي تنجح التحذيرات، لا يكفي أن يدق جامعو المعلومات الاستخباراتية والمحللون ناقوس الخطر. ويتعين على صناع السياسات أيضا أن يتخذوا الإجراءات اللازمة. قبل أسابيع من غزو روسيا لأوكرانيا، على سبيل المثال، أصدرت وكالات الاستخبارات الأمريكية سيلا غير مسبوق من التحذيرات الاستخباراتية التفصيلية من هجوم بوتين الوشيك. ومع ذلك، حتى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينكسي لم يصدق ذلك. كانت شجاعة زيلينسكي تحت النار مصدر إلهام للعالم، وأثبتت الاستخبارات أنها محورية في مساعدة أوكرانيا وحشد حلفائها منذ بدء الحرب. لكن يجدر بنا أن نسأل كيف كان يمكن أن يتكشف التاريخ بشكل مختلف إذا اتخذ زيلينسكي وقادة العالم الآخرون المزيد من الإجراءات - أو إجراءات مختلفة - استجابة للتحذيرات الاستخباراتية، قبل وقوع الكارثة. وتعلّق: عندما يحدث سلوك الفاعل انفصالا مفاجئا عن الماضي. يميل البشر إلى افتراض أن التاريخ هو دليل جيد للمستقبل. غالبا ما يكون هذا صحيحا، ولكنه قد يكون أيضا خاطئا بشكل خطير - وهذا هو السبب في أن تحديد مؤشرات التغيير المتقطع هو عمل استخباراتي شاق وحيوي.
ثم تعود زيغارت إلى التاريخ لتقول إن هذه المشكلة ليست جديدة. في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، جمعت وكالات التجسس الأمريكية رزمة من المعلومات الاستخباراتية على مدى أشهر تشير إلى أن شحنات الأسلحة السوفيتية كانت متجهة إلى كوبا. لكنهم خلصوا إلى أن المسؤولين السوفييت لن يجرؤوا على وضع صواريخ نووية هناك لأنهم لم يقوموا بمثل هذا النشر المحفوف بالمخاطر على أرض أجنبية من قبل. لم يكن الأمر كذلك حتى عثرت طائرات التجسس U2 على أدلة لا جدال فيها على مواقع الصواريخ النووية في كوبا، حيث أدرك مسؤولو المخابرات الأمريكية أنهم كانوا مخطئين.
في هذه الحالة، هاجمت حماس إسرائيل بتطور ونطاق أكبر بكثير من أي وقت مضى - وهو تغيير هائل ومتقطع. سيكون من المهم توضيح ما إذا كانت وكالات الاستخبارات الإسرائيلية قد رأت هذا التحول قادمًا، وما إذا كانت قد فاتتها، و (إذا كان الأمر كذلك) لماذا.
وفي قراءة موضوعية تقول إيمي زيغارت ربما فشلت المخابرات الإسرائيلية أيضًا في فهم إسرائيل نفسها، إذ ركز وكالات الاستخبارات، وخاصة في الديمقراطيات، جمعها وتحليلها على فهم الخصوم الأجانب. ولكن السياسات والمشاكل الداخلية من الممكن أن تشجع الأعداء وتغير حساباتهم المتعلقة بالمجازفة والمكافأة. وعليه يجب أن تفهم الاستخبارات "نحن" أيضًا. وكيف يمكن لما يحدث في البلد أن يغيّر تصوّرات العدوّ وسلوكه. على سبيل المثال، ربما لم تكن وكالات الاستخبارات الإسرائيلية تعرف ما إذا كان أعداؤها، بما في ذلك حماس، ينظرون إلى الأزمة السياسية الداخلية غير المسبوقة في بلادهم، وكيف ينظرون إليها. وربما ساعدت الأزمة أيضا على نجاح هجوم حماس. أدى الإصلاح الذي اقترحه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للقضاء الإسرائيلي إلى اضطراب المجتمع الإسرائيلي، مما أدى إلى احتجاجات عامة ضخمة. وتعهد المئات من جنود الاحتياط العسكريين الأساسيين برفض الحضور للخدمة إذا تم تمرير الإصلاح. يجب على المحققين أن يسألوا ما إذا كان هذا الاضطراب الداخلي قد أضعف الردع الإسرائيلي ليس فقط من خلال التأثير على تصورات العدو، ولكن أيضا من خلال تآكل القدرات الاستخباراتية الفعلية لإسرائيل واستعدادها العسكري.
ومثل أي شيء في مجال الاستخبارات، فإن الأدوات الجديدة تحمل مخاطر بالإضافة إلى فوائد. ومن أهم المخاطر أن وكالات التجسس قد ينتهي بها الأمر إلى وضع وزن كبير جدا على المعلومات الاستخباراتية التي يسهل الحصول عليها وقياسها وتحليلها بالوسائل التقنية وليس وزنا كافيا للمعلومات الاستخباراتية التي يصعب جمعها ويستحيل تحديدها كميًا. في الفترة التي سبقت الحرب في أوكرانيا، على سبيل المثال، كان جزء من سبب مبالغة وكالات الاستخبارات الأمريكية في تقدير القدرات العسكرية الروسية والتقليل من شأن قدرات أوكرانيا هو أنه كان من الأسهل إحصاء الدبابات والقوات بدلا من تقييم إرادة القتال. بعبارة أخرى، اعتمدت وكالات الاستخبارات كثيرًا على الأشياء التي يمكن حسابها.
في السياق أيضً تشير الكاتبة أنه على الرغم من التطور التكنولوجي في الكيان، إلا أن حماس استطاعًا أن تحقق نجاحُا كبيرًا في مكافحة التجسس، وهو ما يجب على الإسرائيلي أن يعرف تفاصيله. سيتعين عليهم تحديد كيف تمكنت حماس من إبقاء مثل هذه العملية المعقدة واسعة النطاق سرية عن واحدة من أفضل أجهزة الاستخبارات في العالم. لتعود وتقول إنه أيضًا، ربما، كانت حماس محظوظة أكثر من كونها ماهرة، وأن حماس لم تفعل شيئا ملحوظا لإخفاء نواياها أو قدراتها. وتورد ما وجده بحثها في 11 سبتمبر، أن القاعدة لم يكونوا بحاجة إلى خطط خيالية لمكافحة التجسس أو حتى أسماء مزيفة لتحقيق النجاح. لقد احتاجوا فقط إلى وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي للعمل كما فعلوا عادة. عندما انتهت الحرب الباردة ونما التهديد ا في تسعينيات القرن العشرين، فشلت هذه الوكالات في تكييف هياكلها وحوافزها وثقافاتها لاكتشاف وهزيمة عدو جديد. ونتيجة لذلك، أضاعت وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ما يقرب من عشرين فرصة لاختراق وربما وقف أحداث 1990/9.
المصدر: فورين أفيرز
الكاتب: غرفة التحرير