في 3 أكتوبر تشرين الأول من العام 1993، وعلى إثر اقتتال بين ميليشيات أهلية صومالية، اشتبكت القوات الأمريكية في معركة ضارية، مع تنظيم صومالي في حيّ سكني مكتظّ بالسكان في مقديشو عاصمة الصومال. وتمكّن الصوماليون من إسقاط مجموعة من طائرات الهليكوبتر بلاك هوك UH-60، مما أدى إلى قتل 18 جنديًا أمريكيًا. في المقابل سقط ما لا يقلّ عن 300 ضحية صومالية، تضمنت مقاتلين صوماليين ومدنيين، وعُرِفت تلك المعركة شعبيًا باسم "بلاك هوك داون". كانت تلك الفترة التي تزامنت مع انهيار الاتحاد السوفياتي، لحظة فاصلة لتدخّل أمريكي أوسع في الصومال، ضمن جهود أمريكية لنظام عالمي جديد بقيادتها، في أعقاب الحرب الباردة.
وبعد ثلاثين عامًا، تزداد آثار التدخلات الأمريكية انقشاعًا، خاصة فيما يتعلّق بعرقلة العمليات الاجتماعية والسياسية المحلية، التي أبقت على استمرار الصراع والشلل الحكومي والشعبي في الصومال. حيث كان من الممكن التوصل إلى اتفاقات، لولا جهود إذكاء الصراع تحت غطاء قوات حفظ السلام من الأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة (UNOSOM I)، التي كُلِّفت بمراقبة اتفاق وقف إطلاق النار بين الأطراف المتحاربة في مقديشو بعد سقوط الدولة الصومالية في أوائل عام 1991، وتحت حجة عدم وقف إطلاق النار من قبل الميليشيات، توقّفت المساعدات الإنسانية عن الصومال، ما أدى إلى مجاعة مروّعة. وصور الأطفال الذين يتضوّرون جوعًا والتي انتشرت في جميع أنحاء العالم، كانت المدخل لتدخّل سياسي وعسكري أكبر للولايات المتحدة، وقيادة قوة متعددة الجنسيات، تدعى قوة المهام المتحدة (UNITAF).
بالإضافة إلى كونها قوات فصل عسكرية، كُلِّفت اليونيتاف ببناء الدولة أيضًا، بما في ذلك نزع السلاح بالقوة. وأدى ذلك إلى الاشتباك مع تنظيم "التحالف الوطني الصومالي" عام 1993، حيث داهمت القوات الأمريكية فندقًا في مقديشو، في القبض على أفراد رفيعي المستوى في الجيش الوطني الصومالي. أدت النتيجة الكارثية للغارة في النهاية، إلى تغيير إدارة كلينتون مسارها، وسحب القوات الأمريكية من الصومال، في ربيع عام 1994. وحذت قوات الأمم المتحدة حذوها، وخرجت من الصومال بحلول أوائل عام 1995. إذ كان ثمّة انتقاد واسع لمختلف أنواع التدخل الأمريكي تحت غطاء الأمم المتحدة، والذي كان يؤدي إلى ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين، وزيادة العنف العنصري، وعدم توقف المجاعة، بعد الادعاء بأن 80% من الإمدادات الغذائية قد نُهِبت.
ومن ضمن الانتقادات أيضًا، هو استخدام الرسوم الكاريكاتورية واختزال الأزمة في صور الأطفال الجائعين والميليشيات المهووسة بالمخدرات، دون المحاسبة على دور قوات الأمم المتحدة بأغلبية أمريكية في ذلك. وعلى الرغم من مخاوف دولية بشأن الفراغ الذي سيخلّفه انسحاب القوات الأجنبية، والذي من شأنه "زيادة معاناة السكان" على حدّ تعبيرهم، إلا أن الصومال، بعد انسحاب القوات الأمريكية، لم تعد إلى دائرة العنف، وشهدت استقرارًا نسبيًا فيما أشار إليه أحد المحللين بأنه "الحكم بلا حكومة". تميزت هذه الفترة التي استمرت حوالي عقد من الزمان، 1995-2004، بتشكيل ترتيبات الحكم الذاتي المختلفة على أساس العلاقات المحلية والقرابة، بالإضافة إلى ظهور مراكز الفصل في النزاعات/ التحكيم في المناطق الحضرية مثل مقديشو.
ومع توطين النزاعات، أصبح من الأسهل على المجتمعات إيجاد حلول محلية، يقودها مزيج من الشيوخ التقليديين، ورجال الأعمال، والجماعات المدنية. وفي الوقت نفسه، ظهرت مراكز القضاء/التحكيم التي تستخدم مزيجًا من الشريعة والعادات الصومالية لحل النزاعات. وجلبت المحاكم الشرعية في مقديشو مستوًى معينًا من الأمن لبعض الأحياء طوال التسعينيات، إلى بداية القرن العشرين، على الرغم من معارضة أمراء الحرب والميليشيات لها.
لكنّ هذا الأمر لم يَرُق للأمريكيين. فعادوا إلى البلاد مع موجة جديدة واسعة من العنف، وتحت شماعة الاشتباه في أن الأفراد المرتبطين ببعض المحاكم الشرعية، قد يؤوون المشتبه بهم في تفجيرات السفارة الأمريكية في شرق إفريقيا عام 1998. وللمساعدة في العثور على هؤلاء المشتبه بهم والقبض عليهم، بدأت وكالة المخابرات المركزية في تحويل الأموال إلى أمراء الحرب في مقديشو. لكنّ استراتيجيتهم هذه فشلَت، بعدما هزمت المحاكم الشرعية، بدعم هائل من سكان مقديشو، هزمت أمراء الحرب.
لكن هل يئست الولايات المتحدة؟
كلا.
عندما فشل أمراء الحرب، دعمت الولايات المتحدة الغزو الإثيوبي لمقديشو في منتصف عام 2006، وأدى في نهاية المطاف إلى حل المحاكم الشرعية. واستولى العناصر الأكثر تطرفًا عليها لدى إعادة تشكيلها، ما مهّد الطريق لتحويل الصومال، إلى دولة على خط المواجهة، فيما سمي "الحرب على الإرهاب"، بقيادة الولايات المتحدة.
وهكذا، تعيد الولايات المتحدة خلط الأوراق في الصومال، بشكل مستمر منذ 30 عامًا، بما يضع حدًا للعمليات السياسية والاجتماعية التي كان من شأنها إيقاف الصراع في البلاد.