كانت طرق التجارة البحرية، قبل قرن من الزمن، والتي تمتد من ساحل اليابان إلى البحر الأحمر، تشهد حركة خجولة للسفن الآسيوية والعربية وكانت في أكثر الأحيان غير مرحب بها ومستهجنة. اليوم، أصبح العالم شاهد على تحول اقتصادي هائل، يحتل فيه النموذج الآسيوي مكاناً هاماً، وباتت الولايات المتحدة، مضطرة فيه للاعتراف ثم اللجوء إلى "إدارة مقبولة للتنافس" بدلاً من سياسة الاقصاء التي كانت تعتمدها لعقود.
عام 1990، تدفقت كميات هائلة من البضائع الآسيوية إلى الأسواق الأوروبية، وحافظت على نموها، لتصل إلى حوالي 58%. كما أدت زيادة التجارة الإقليمية إلى زيادة تدفقات رأس المال أيضاً. وهو الأمر الذي دعا مراكز القرار في العواصم العالمية الكبرى إلى الحديث عن حقبة اقتصادية جديدة من شأنها اعادة تشكيل المستقبل الاقتصادي والسياسي.
بدأ تشكّل هذه الحقبة مع نمو سلاسل التوريد المتطورة التي تركزت أولاً في اليابان في التسعينيات، ثم في الصين لاحقاً. وسرعان ما بدأت السلع الوسيطة (أي القطع التي تدخل في عملية التصنيع) في التحرك عبر الحدود بأعداد أكبر، فيما لعب الاستثمار الأجنبي دوراً أيضاً.
وبحسب الإحصاءات، فإن المستثمرون الأسيويون يمتلكون حوالي 59% من مجمل الاستثمار الأجنبي في منطقتهم، وهذه نقطة قوة للسوق المالي والاقتصادي لديهم.
بعد الأزمة المالية العالمية عام 2007 أصبحت الخدمات المصرفية عبر الحدود أكثر آسيوية. وقبل اندلاع الأزمة، كانت البنوك المحلية تمثل أقل من ثلث الإقراض الخارجي للمنطقة. وهم يمثلون الآن أكثر من النصف، بعد أن استفادوا من تراجع الممولين الغربيين. ويضيف التقرير الذي أعدته مجلة ايكونوميست، ان بنوك الصين قادت هذا المسار، حيث زادت القروض الخارجية التي قدمها البنك الصناعي والتجاري الصيني بأكثر من الضعف من عام 2012 إلى العام الماضي، لترتفع إلى 203 مليارات دولار.
في استطلاع حديث يرصد تراجع الحكومات الغربية، أجراه باحثون ورجال الأعمال وصناع السياسات في جنوب شرق آسيا من معهد يوسف إسحاق في سنغافورة، تبين أن حوالي 11% فقط لا زالوا يعتقدون أن الولايات المتحدة هي القوة الاقتصادي الأكثر تأثيراً.
يتمثل التحدي الجديد على ضوء الصراع المستمر بين بكين وواشنطن، في إيجاد سلاسل توريد بديلة وهو الأمر الذي تعجز عنه الأخيرة. اذ تتطلع الشركات في المنطقة التي تعتمد على المصانع الصينية إلى بدائل في الهند وجنوب شرق آسيا. وفي الوقت نفسه، يتوقع عدد قليل من الرؤساء التخلي عن الصين تماماً، مما يعني أن هناك حاجة إلى سلسلتي توريد آسيويتين، إلى جانب بعض مضاعفة الاستثمار.
إن الحاجة إلى إنشاء سلاسل توريد جديدة تعني أن النقل والخدمات اللوجستية هي مجال آخر من المحتمل أن يزداد فيه الاستثمار داخل آسيا، كما تلاحظ سابيتا براكاش من شركة adm Capital، وهي شركة ائتمان خاصة. كما أن التغييرات في المدخرات والديموغرافيا الآسيوية ستسرع التكامل الاقتصادي. صعدت الصين وهونغ كونغ واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان إلى صفوف المستثمرين الأجانب، لتصبح من أكبر المستثمرين في العالم. وقد صدرت هذه الأجزاء الأكثر ثراء وأقدم من القارة كميات هائلة من رأس المال إلى بقية المنطقة، مع وجود أموال نقدية في أعقاب الروابط التجارية التي أنشئت مؤخرا. في عام 2011، كان لدى البلدان الأكثر ثراء والأكبر سنا في آسيا حوالي 329 مليار دولار، من أموال اليوم، مستثمرة في الاقتصادات الأصغر والأكثر فقرا في بنغلاديش وكمبوديا والهند وإندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند. وبعد عقد من الزمان، ارتفع هذا الرقم إلى 698 مليار دولار.
من شأن الروابط التجارية أن تربط دورات الأعمال في الاقتصادات الآسيوية ببعضها البعض بشكل أكثر إحكاماً. على الرغم من الاستخدام المستمر للدولار في المعاملات عبر الحدود وميل المستثمرين الآسيويين المستمر للأسواق الغربية المدرجة، خلصت دراسة أجراها بنك التنمية الآسيوي في عام 2021 إلى أن الاقتصادات الآسيوية أصبحت الآن أكثر عرضة للتداعيات من الصدمات الاقتصادية على الصين من الولايات المتحدة.
وتخلص مجلة ايكونوميست إلى القول انه سيكون لذلك تداعيات سياسية. وسوف تحتفظ واشنطن بنفوذها على الأمن الآسيوي، ولكن أهميتها الاقتصادية سوف تستنفد. وسيكون رجال الأعمال وصانعو السياسات المحليون أكثر اهتماما بجيرانهم وتقبلا لهم، بدلا من العملاء والبلدان البعيدة.
الكاتب: غرفة التحرير