حلّ بابا الفاتيكان أرضَ البحرين في ٣ نوفمبر تشرين الثاني، في زيارةٍ تاريخيّة وغير اعتياديّة. كان من الواضح أنّ حكومةَ البحرين وفّرت كلّ جهودها من أجلِ تحويلِ الزّيارةِ إلى جزءٍ من أدواتِ الدّعاية من أجل تخفيفِ الضّغوط الدّولية بسبب انتهاكاتِ حقوق الإنسانِ المستمرّة في البلاد، إضافة إلى جنوحِ السّلطات لاستعمال الزّيارةِ لتكون رافعة إضافيّة لتمرير الانتخابات البرلمانيّة التي ستجري في ١٢ نوفمبر تشرين الثاني الجاري والتي أعلنت قوى المعارضة قاطبة عن مقاطعتها. فهل حقّقت الحكومةُ، حتّى الآن على الأقل، ما أرادته من هذه الزّيارة البابويّة؟
إلى ما قبل وصولِ البابا وإلقائه الكلمة الأولى في القصر الملكي في منطقة الصّخير، بحضور ملكِ البلاد وكبار المسؤولين والسّلك الدبلوماسيّ؛ فإنّ المشهدَ لم يكن واضحا بالشكّل الذي يُسعفُ على استشرافِ ما يمكن أن يُقدِم عليه البابا. هذا الغموضُ كان سببا أساسيّا لانطلاق أوسعِ تحرُّكٍ علمائيّ وحقوقيّ واحتجاجيّ، داخل البحرين وخارجها، من أجل إطّلاع البابا -والعالم- على حقيقةِ ما يجري في البلاد، ودفعْه لكي يقول "كلمة حقّ" أمام الفظائع والانتهاكات. ولأجلِ إكمال الصّورة، فمن المهمّ المرور على هذا الحراكِ النّوعي والكميّ وبيان دوره الأساسيّ في إعادةِ صياغة المشهد.
قبل نحو أسبوعين من زيارةِ البابا، وفوْر الإعلان الرّسمي عنها؛ بدأت قوى المعارضة في التّحضير الخاص للزّيارة، فتمّ عقْد اجتماعاتٍ ولقاءات تنسيقيّة مشتركة والاتفاق على خطابٍ تصحيحيّ لمسار الزّيارة غير المسبوقة. أسفرَ ذلك عن بياناتٍ مشتركة، ولقاءٍ عام ضمّ كلّ قوى المعارضة، ارتكازا على فكرةِ التّرحيب العام بالزّيارة، وإنّما التّعبير الجدّي عن الخشيةِ من توظيفِ النّظام لها لترويج انتخاباته الصّوريّة، وإضفاء المشروعيّة على الواقع الرّاهن. سرعان ما تمّت برْمجة جملةٍ من التحرّكاتِ الإعلاميّة وتسريع خُطى الرّسائل المفتوحة والخاصّة إلى الفاتيكان، لبيانِ حقيقةِ الظّلم والاضّطهاد السّياسي والدّينيّ الذي تعاني منه البلاد وخاصّة بعد قمع ثورة ٢٠١١م.
ترافقَ ذلك – وهذا الأمر الآخر المهم - مع موقفٍ واضح ودقيقٍ من المرجعيّة الدّينيّة العليا لشيعة البحرين، ممثلة في آية الله الشّيخ عيسى قاسم، حيث تولّى سماحته – بحكم دوره القيادي المركزي – مخاطبة القيادات الدّينيّة والروحيّة التي تزور البحرين للمشاركةِ في المنتدى الحكوميّ حول التعايش والتسامح، وبينهم البابا، وأكّد الشّيخ قاسم بأنّ الموقعيّة الدّينيّة التي ينتسبُ إليها المشاركون في المنتدى؛ تحتّم عليهم عدم الانحياز للاضطهاد والتّمييز والظّلم، وأن يكونوا في صفّ المضطهدين والمظلومين في البحرين، وأنّ أيّ انحرافٍ عن ذلك سيعني الوقوع في فخّ النّظام وحبائله في التّرويج والدّعاية والتغطية على الانتهاكات. ولاشكّ أنّ هذا الموقف من أعلى مقام دينيّ في البحرين؛ كان له الأثرُ البالغ في إثارةِ الرّأي العام الإسلاميّ والمسيحيّ، وبالتالي تسهيل فُرَص يقظة الضّمير وإتمام الحجّة على الجميع.
هذه الخطوة الهامّة تمّ تعميقها من داخل البحرين، ومن داخلِ السجون تحديدا، مع إصدار علماء دين معتقلين رسالةٍ مفتوحةٍ إلى البابا تعبّر عن المضامين ذاتها التي أثارتها قوى المعارضة والشّيخ قاسم. وهذه الخطوة أخذت مداها الأوسع مع بدء حراكٍ نوعيّ من داخل السّجون أيضا، حيث أصدر السّجناء السّياسيون والمحكومون بالإعدام وعوائلهم بيانات مسجّلة صوتيّا، ورسائل مكتوبة متتالية دعت البابا للقيام بدوره الرّوحي بوقفِ انتهاكات حقوق الإنسان ومنْع الإعدامات في البحرين. ومع مشهد التّظاهرات والاعتصامات التي شهدتها مناطق البحرين، وتوافُد المواطنين في السّاحات رافعين اللافتات والشّعارات؛ يكون المشهدُ المطلبي في الداخلِ أخذَ اكتماله المطلوب وعلى النّحو الذي أسهمَ في بيانِ الحقيقةِ التي يريد النظامُ طمْسها والتّشويش عليها.
ومن ثمّ، كان لكلّ ذلك امتداده اللاّفت في السّاحةِ الحقوقيّة الدّولية، حيث تولّى النشطاء البحرينيّون دورَهم بامتياز عبر تحويل كلّ هذا الحراك المطلبي المعارض إلى تحرّكاتٍ حقوقيّة في أروقةِ العالم، والذي برزَ مع إصدار منظماتٍ دوليّة معروفة، مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدّوليّة، تقاريرَ خاصّة بالتّزامن مع زيارة البابا، كشفتْ وقائعَ وحقائق الانتهاكات الجارية في البحرين. ولم يكن تصريح المتحدّث باسم الفاتيكان، قبل الزّيارة، الذي أكّد رفْض البابا للتّمييز الدّيني والعرقي، والالتزام بحقوق الإنسان؛ إلا جانب آخر من النّتائج التي تبلورَ عنها التّحرّكُ الواسعُ الذي بذلته المعارضة بكلّ أطيافها ومستوياتها في الدّاخل والخارج.
بالعودةِ إلى سؤال المقالِ الأساسي، وبعد الكلمة التي ألقاها البابا في قصر الصّخير الملكي؛ هل يمكن القول بأنّ بابا الفاتيكان استجابَ أولا لموقعه الرّوحي الإنسانيّ، وثانيا للمطالبات العلمائيّة والحقوقيّة واسعة النطاق؟
من غير مبالغةٍ كبيرة، وبشيءٍ من التّأني والموضوعيّة؛ يمكن القول بأنّ كلمة البابا حاولت تقديمَ توازنٍ عام في المواقف. من ناحية؛ قدّمت الكلمةُ عباراتِ الشّكر والإشادة لحكّام البحرين، ولكنّها لم تكن عباراتٍ مفتوحة، بل حرصت الكلمةُ على أن تتوازى في الصّورة من خلالِ الحديث عن البحرين وأهلها، بما يملكونه من تاريخٍ وإرثٍ أصيل في التّسامح والتّلاقي الحضاري. هذه لعبةُ توازنٍ حذرة، وخاصة مع هالةِ الاستقبالِ الرّسمي والحفاوةِ الحكوميّة التي حظي بها البابا، والهدايا الرمزيّة التي أُهديت له. أجرت الكلمةُ توازَنها الخاص من بوّابةِ التّأكيد على أنّ الأهم هو تفعيلُ مواد الدّستور، وتطبيق الشّعارات على الأرض، وتشديده على النّقص الهائل في هذا الجانب، في ظلّ وجود انتهاكات حقوق الإنسان وأحكام الإعدام، وتهميش العمّال والسجناء. وسرعان ما التقطت وكالاتُ الأنباء العالمية ذلك ووصّفت كلمة البابا على أنّها انتقادات واضحة للسّلطات في البحرين، وهو الأمرُ الذي عبّرت عنه قوى معارضة أيضا، وأبدت بعضها ترحيبها بمحتوى الكلمةِ وتبنّيها لها لتكون وثيقةً للتّسامح الحقيقي في البلاد.
من وجهةِ نظري، فإنّ البابا – حتى الآن – لم يقدّم خطابا استثنائيّا أو غير متوقّع. أي أنّه لم يكن متوقّعا من بابا الفاتيكان أن يكون أداةً سهلة بيد السّلطات في البحرين، أو يتولى تنفيذ أجندةٍ رسميّة مكشوفة. كما أنّ محتوى كلمته – رغم توظيفه اللافت لبعض جوانب الإرث التّاريخي والحضاري للبحرين وأهلها – لم يُحْرز اختراقا للوضْع القائم في البحرين، حيث تحدّث عن ذات المضامين التي تحرصُ البابويّة على إذاعتها والتّأكيد عليها في كلّ المناسبات، كما حصلَ في زيارةِ البابا للعراق ودولة الإمارات. لاشكّ أنّ الأمورَ يمكن أن تكون أقلّ من ذلك بكثيرٍ لولا الحراك المعارض الذي سبقَ وترافقَ مع الزّيارة، ولكن حتّى الآن لا ينبغي تسجيل إشاداتٍ مفتوحة ومطلقة لهذه الزّيارة، في مقابل الاستمرار في التّعاطي معها على أنها حدثٌ قائم، وأنّه من الممكن أن يسفرَ عنه المزيد، ولكن بشرط الإبقاء على جذوة الحراكِ المطلبي والضّغوط المعارضة التي حفّت الفاتيكان. هذا هو الرّهانُ الحقيقيّ، في كلّ الحالات ومع كلّ المناسبات، ولاسيما وأنّ معركة إفشال الانتخابات مقبلة، كما أنّ المشروع الدّستوري الجديد الذي لوّحت به قوى معارضة؛ ينتظر جهودا وتحرّكات واسعة.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
الكاتب: كريم البحراني