سيكون للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تداعياتها المباشرة على منطقة الشرق الأوسط، لا سيما على صعيد أسواق النفط والطاقة، وحركة التجارة، وسلاسل التوريد.
كما وقد يتأثر الأمن الغذائي الإقليمي، بسبب اعتماد العديد من دول المنطقة، على سلع أساسية وحيوية قادِمَة من روسيا وأوكرانيا. وسوف تمتد آثار هذه الأزمة وتداعياتها سريعاً إلى السياسة، والأمن، وشبكة التحالفات، ومنظومة العلاقات بين دول المنطقة. وذلك بفعل كثرة التناقضات والخلافات وهشاشة النظام الإقليمي، وانكشافه على العوامل الدولية.
من هذا المنطلق، تبدو التفاعلات كثيرة ومختلفة على إيران وتركيا وسوريا والكيان المؤقت. وعليه تبنى التوازنات الجديدة والتحولات في إطار نظام عالمي جديد، يبدو انه لن يتوقف عند ساحة المعركة.
وتعكس الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني إلى قطر، وزيارة الرئيس الإسرائيلي إلى تركيا تطورين ملموسين في منظومة التحالفات، واتجاهات التنافس، والصراع الإقليمي كنتيجة أولية للصراع في أوكرانيا.
وقد اتخذت إيران وسوريا مواقف داعمة لروسيا كما هو متوقع، فقد أعلن الرئيس بشار الأسد، أن سوريا ستعترف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين التي تدعمهما روسيا في شرق أوكرانيا، وقال وزير الخارجية الإيراني إن الأزمة "متجذرة في استفزازات الناتو".
لكن حلفاء وشركاء الولايات المتحدة الامريكية الرئيسيين في المنطقة، كانوا حذرين في موافقهم. فبينما أدان وزير خارجية الكيان المؤقت روسيا، لم يفعل رئيس وزرائها ذلك. فالكيان يرى في روسيا شريكًا مهمًا، اذ يشكل المستوطنون الروس قاعدة انتخابية مهمة، في نسبة الناخبين الإسرائيليين.
وعلى هامش هذه المواقف، ترى كلاً من السعودية والإمارات وقطر، في روسيا شريكا ومنافسا مهما في إنتاج الطاقة ومصدر محتمل لشراء الأسلحة والاستثمار والسلع الأخرى. فبالرغم من تعبيرهم عن قلقهم، لكنهم تجنبوا إلقاء اللوم على روسيا. في الوقت الذي حاول فيه الأمير القطري الاستفادة من العلاقات مع الطرفين للعب دور الوساطة.
لذلك يعتبر رفض إدانة هجوم روسيا، انعكاسًا صارخًا لاستراتيجية القوى الإقليمية الجديدة/ المتمثلة في التحوط للبقاء متحالفين مع الولايات المتحدة، ولكن في الوقت نفسه مع تجنب للمواجهة مع الصين أو روسيا.
إيران
في إيران، وحتى قبل أن تبلغ الأزمة الأوكرانية هذا المستوى المتقدّم من التصعيد العسكري والسياسي، انشغلَ العديدُ من مراكز التفكير الإيرانية في تقدير، وتحليل، انعكاسات هذا الصراع على المنطقة عموماً، وعلى المسألة الإيرانية على نحو خاص.
وبدا أن للأزمة انعكاسات وتداعيات مباشرة على البرنامج النووي الإيراني، والتنازع بين اتجاهات الشرق والغرب في السياسة الخارجية الإيرانية، ومنظومة علاقات إيران الإقليمية، وشراكاتها الدولية.
كما أن للأزمة تداعياتها الاقتصادية على إيران، وستكون أكثر وضوحاً في قطاعي النفط والغاز، لكنّها لن تكون محصورة بهما.
وبعيداً عمّا إذا كانت التحليلات الإيرانية صائبة أم لا، فمن المفترض أن تحمل الأزمة الأوكرانية عدة تداعيات على إيران، يمكن تقسيمها إلى مستويين أساسيين:
1)التداعيات الاقتصادية
تمثّلت أبرز تداعيات الأزمة الأوكرانية على إيران في انعكاساتها الاقتصادية؛ إذ حملت الأزمة طلائع توقُّف إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، كما حملت بوادر فرض عقوبات مُشدَّدة على روسيا من جانب الغرب.
ويؤكد الانطباع الغالب داخل الأوساط الاقتصادية والسياسية في إيران، أنَّ طهران يمكنها الاستفادة من الحصار التي يفرضه الغرب على موسكو. وفي هذا السياق، تشير بعض المواقف إلى أن انقطاع طرق تبادل البضائع بين روسيا والغرب بدرجات متفاوتة، يمكن أن يخدم الاقتصاد الإيراني، الذي ستعول عليه موسكو حينها، باعتباره أحد الأسواق البديلة.
وفي حال استمرار العقوبات لفترة طويلة، من المتوقع أن يرتفع حجم التبادل التجاري بين إيران وروسيا من 4 مليارات دولار في 2021، إلى 8 أو 10 مليارات دولار في 2025، وبما يعني ارتفاعاً بنسبة 100 حتى 150 بالمئة، في أربعة أو خمسة أعوام. وسيعمل انضمام إيران إلى الاتحاد الأورو-آسيوي، ومشاريع انفتاح إيران على النظام البنكي الروسي، على تشجيع هذا التوسع في التبادل الاقتصادي بين الجانبين. ويمكن القول إن روسيا تحت الحصار سوف تُمثِّل فرصة للاقتصاد الإيراني، كما كانت إيران تحت العقوبات تمثّل فرصة للاقتصاد الروسي.
قطاع الطاقة:
أما فيما يخصّ قطاع الطاقة، فإن الأمور لا تبدو بهذا المستوى من الوضوح؛ إذ لا يمكن الجزم بطبيعة الانعكاسات المحتملة، كما هو الحال في التبادل التجاري. وتُشير مجمل التطورات إلى أن الغاية من فرْض العقوبات على موسكو، هي عزلها عن الاقتصاد الغربي، وإبعادها عن سوق الطاقة الأوروبية الذي يمثل أهم موارد الاقتصاد الروسي في الغرب. فقد توصل الأوروبيون إلى قناعة بضرورة تنويع مصادر الطاقة الأوروبية، لتقليل الكُلَف غير المباشرة، وتفادي موجات التضخم الناجمة عن ارتفاع الأسعار.
ومن الواضح أن منظومة العقوبات الأوروبية لا تستهدف عزل روسيا عن الاقتصاد العالمي كافة، والمرجح أنه لا يمكن لها ذلك، حتى وإن أرادت القيام به. وكانت روسيا قد استبقت موجات العقوبات الغربية، بتنفيذ عدة خطوات لضمان أسواق بديلة للغاز الروسي خارج أوروبا، منها على سبيل المثال، توقيع اتفاقية مع الصين، لتزويدها بإمدادات غاز ونفط، بقيمة 120 مليار دولار، تضمَّنت عشرة مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً. وأكّدت موسكو مراراً التزامها بتزويد أسواق الطاقة الأوروبية بالغاز الروسي بمعزل عن الخلافات السياسية. لكنّ اتجاه التطورات الأخيرة يُشير إلى تطلع الجانب الأوروبي نحو مصادر بديلة للغاز الروسي. وبالفعل أكدت مصادر غربية توقف مشروع خط أنابيب الغاز الثاني، وسط توقعات بانخفاض إمدادات الغاز الراهنة. لا شكّ أن قطر تُعدُّ في مقدمة الدول التي يعوّل عليها الاتحاد الأوروبي كمصادر بديلة للغاز. كما يمكن لدول عربية أخرى مُنتجة للغاز، مثل: الجزائر، ومصر أن تُسهِم في تقليل اعتماد الأوروبيين على الغاز الروسي.
لكنّ العديد من التحليلات في أوروبا أشارت أيضاً، إلى أن الاتحاد الأوروبي كان يحثُّ الخطى لإعادة إحياء الاتفاق النووي، تمهيداً للتزود بمصادر الغاز الإيرانية. وذلك عبر تنفيذ حزمة من مشاريع التطوير، والاستثمارات المشتركة، وهي مشاريع شهدت في التسعينيات من القرن الماضي نماذج أولية منها. وعلى الرغم من ذلك، يبقى من المحتمل أن تُوفِّر الأزمة الأوكرانية أفقاً محدوداً لإيران لتطوير قطاعي النفط والغاز عبر الحصول على استثمارات غربية، خاصة في حال التوصل إلى اتفاق في المفاوضات الجارية حول برنامج إيران النووي. وذلك بسبب ان إيران خبرت كذب الغرب وعدم التزامه بالوعود، إضافة الى انها كدولة حليفة وكشريك استراتيجي لروسيا، لن ترغب في الدخول على خط منافسة غير شريفة، وربما لن تصب في صالح الخيارات الإيرانية، في العديد من الملفات المشتركة مع روسيا في المنطقة.
في المقابل، يسعى الإيرانيون إلى التركيز على السوق الهندية والباكستانية للغاز، من خلال العودة إلى التركيز على مشاريع قديمة، من أهمها خط أنابيب السلام. وعلى الرغم من وجود عقبات من المفترض أن تُعيق هذا المسار، قد يأمل الإيرانيين بأن يُسهِم موقفهم الداعم لروسيا، بشأن تصدير الغاز إلى أوروبا، في حصول طهران على دعم موسكو السياسي والاستثماري لتفعيل خط أنابيب الغاز إلى الهند وباكستان، مقابل أن تظل روسيا مصدرة الغاز الأساسية إلى الصين، وأن تحصل كذلك على حصة من سوق الهند إلى جانب إيران. وهناك أفكار حول سُبُل التعاون مع روسيا والصين، لإنشاء حلقة تزويد للغاز، تشارك فيها إيران إلى جانب روسيا والصين وتركمنستان، لكنها لا تزال مجرد أفكار أولية.
2)التداعيات الجيوسياسية، والعسكرية
أيدت إيران ودعمت الموقف الروسي في أوكرانيا، وأكد الناطق باسم وزارة الخارجية الايرانية على أن "نزوع الناتو نحو التوسُّع شرقاً كان السبب الأساس في الأزمة". ويبدو قرار المؤسسة السياسية في إيران، بالوقوف في الجبهة الروسية مقابل الجبهة الغربية، مُنسجِمَاً مع سياسة التوجه نحو الشرق التي تتبنّاها إيران منذ سنوات. ما يقلق الغرب وعلى راسه الولايات المتحدة الامريكية فيما يتعلق بإيران، هو أن تتجاوز روسيا تحفظاتها القديمة حيال الاتفاق النووي الإيراني، في محاولة للضغط على أوروبا وأمريكا من جبهة مختلفة. فقد يلجأ الكرملين إلى التهديد ببيع أسلحة متطورة إلى إيران، كرافعة سياسية في المفاوضات حول أوكرانيا. وإذا وضعنا ذلك، في مقابل موقف تركيا الداعم لأوكرانيا في الأزمة، يَظهر أن مسار التباعُد بين إيران وجارتها التركية قد يتواصل. خاصةً في ضوء الرغبة التركية بالعودة إلى حاضنة الناتو، التي يؤكّدها موقف أنقرة من الأزمة الأوكرانية، وفي ضوء عودة الدفء إلى العلاقات التركية-الإسرائيلية، والتركية-الخليجية.
وإذ يعني الموقف التركي والموقف الإيراني المتباينين حيال الأزمة الأوكرانية تباعداً بين البلدين على هذا الصعيد (رغم إبداء أنقرة مُعارضتها لفرض عقوبات على روسيا)، وقد يدفع في حال توسَّعت الأزمة الأوكرانية نحو تعزيز تركيا جهودها نحو عزل مسارها في مصادر الطاقة عن إيران، فإنه كذلك قد يُضيف ورقة جديدة إلى مسار التباعد بين حكومة العراق، والنظام السياسي في إيران، خصوصاً في حال قرّر العراق التحوّل إلى مسار لنقل الطاقة من الخليج إلى تركيا وأوروبا. وفي مقابل عودة تركيا إلى أحضان الناتو، من المفترض أن تسعى روسيا إلى إيجاد موطئ قدم لها في إيران، سواء كان ذلك عبر إنشاء قاعدة عسكرية روسية في إيران، أو إجراء مزيد من المناورات العسكرية لضمان وجود عسكري روسي شبه دائم في المنطقة بالتنسيق مع الجهات العسكرية الإيرانية، وبدافع الرغبة بالتصدي لتطوُّر إمكانات حلف الناتو في تركيا. وإذا كانت الظروف الراهنة تجعل من الصعب إنشاء قاعدة عسكرية روسية في إيران، فمن المتوقع جداً أن يرتفع مستوى التعاون العسكري بين البلدين.
وفي الإطار ذاته يمكن أن تُزوِّد موسكو حلفاءها في طهران ببعض الأسلحة الحديثة، أسلحة قد يكون من ضمنها طائرات عمودية، ودبابات حديثة، وتحديث للدفاع الصاروخي الإيراني، والعتاد البحري. وإن لم يكن ذلك متاحاً على صعيد عقود البيع، بسبب العقبات الدولية، ومحدودية الموارد المالية الإيرانية، من المرجح أن تبرم مثل هذه العقود في إطار التعاون، والتدريب، والاستخدام المشترك. وبينما يأتي مثل هذا الوجود العسكري الروسي في إيران (في حال حدوثه) في سياق إيجاد توازن إقليمي، مقابل الناتو فإن التعاون بين البلدين (ربما إلى جانب الصين) قد يتجاوز ذلك إلى حدود التنسيق العسكري والسياسي والأمني حيال أفغانستان.
بشكل عام، من الوارد تماماً أن يؤدي استمرار الأزمة الأوكرانية إلى تعميق مسار انخراط إيران في تحالف عسكري مع روسيا، على الرغم من بعض العقبات (أغلبها على صعيد تنسيق شؤون الطاقة)، خصوصاً وأن التجربة التاريخية تثبت وجود رغبة إيرانية بمثل هذا التحالف.
تركيا
تجد تركيا نفسها في موقف لا تحسد عليه في أعقاب هجوم روسيا على أوكرانيا. تركيا عضو في الناتو، لكنها طورت اعتمادًا متزايدًا على روسيا ليس فقط كشريك في الطاقة، ولكن أيضًا كشريك دبلوماسي وأمني في سوريا. هذا هو الحال على وجه الخصوص في إدلب، حيث كان نفوذ موسكو لا غنى عنه لاستباق هجوم الدولة السورية.
وتتمتع أنقرة أيضًا بعلاقة مزدهرة مع أوكرانيا، بما في ذلك الصناعات الدفاعية. على عكس بعض أعضاء الناتو الآخرين، صرحت تركيا بوضوح أنها ستستمر في بيع طائرات بدون طيار مسلحة لأوكرانيا، على الرغم من رد فعل روسيا. لذلك ستسعى تركيا جاهدة لتنفيذ سياسة موازنة مُعاد ضبطها. ستنتقد أنقرة بشدة سلوك روسيا وستستمر في تسليط الضوء على أهمية وحدة أراضي أوكرانيا. لكن تركيا لن ترغب في الامتثال لسياسات العقوبات الأمريكية والاتحاد الأوروبي تجاه روسيا خوفًا من تنفير موسكو، الأمر الذي قد يؤدي إلى كارثة في إدلب.
ويعتبر بعض المراقبين أن تركيا هي الخاسر الأكبر في هذه المعركة، وذلك لعدة أسباب:
أ)بسقوط أوكرانيا وهزيمة رئيسها واحتمالات هروبه واستلام حلفاء روسيا للسلطة في كييف (هناك حديث عن اسم اوليغ تسارييف بديلا عن زيلينسكي) سيخسر اردوغان حليفا استراتيجيا، ليس فقط في أوكرانيا بل في منطقة البلطيق والبحر الأسود عامة.
ب)ستخسر تركيا سوقا مهما لطائراتها المسيرة، سواء في أوكرانيا او دول البلطيق.
ج)ستخسر تركيا ساحة للتعاون التكنولوجي في عدد من المجالات العسكرية، واهمها المدفعية الثقيلة ومحركات الطائرات النفاثة، بل ربما التكنولوجيا النووية والتكنولوجيا الفضائية.
د)ستخسر تركيا حليفا مهما في البحر الأسود، حيث المنافسة مع روسيا التي سبق لها أن سيطرت على معظم الساحل الجورجي على البحر المذكور خلال أحداث 2008، عندما توغَّل الجيش الروسي ودعم الانفصاليين في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، كما هو يدعم الآن الانفصاليين في لوغانسك ودونيتسك شرقيَّ أوكرانيا، بعد أن سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014.
ه)بهزيمة اليهودي ذي الجنسية الإسرائيلية زيلينسكي (حرسه الخاص من الموساد)، صديق "تل أبيب"، سيخسر أردوغان صديقاً وحليفاً مهماً أدّى دوراً مهماً في المصالحة التركية – الإسرائيلية، وعبر اللوبيات اليهودية في أميركا.
لذلك فقدَ الرئيس أردوغان أمله في أيّ تحرك أميركي أو أطلسي ضد روسيا، بحيث قال "إن الجميع يكتفي حتى الآن بالإدلاء بتصريحات من دون أيّ إجراء فعلي"، من دون أن تمنعه تصريحاته هذه من الحديث هاتفيا إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي شدّد بدوره "على الضرورة الموضوعية للقرار الذي تم تبنّيه في ظل عدوان السلطات الأوكرانية في منطقة دونباس، ورفضها القاطع تنفيذ اتفاقات مينسك"، وذلك وفق بيان الكرملين، الذي اكتفى بالقول إن "رجب طيب أردوغان طرح في المقابل، آراءه المعروفة في هذا الموضوع"؛ أي رفضه الاعترافَ الروسي باستقلال المقاطعتين، والعمليات العسكرية الأخيرة.
ويدرك الرئيس التركي جيداً، الذي ناشد دول الحلف الأطلسي لاتخاذَ مواقف عملية، أن حساباته مع موسكو لا ولن تكون لمصلحة أنقرة، إلاّ في حالة واحدة، هي التنسيق والتعاون الشاملان مع واشنطن، مع ضمانات مطلقة وأكيدة بدعم أميركي له شخصياً، ولتركيا، في السرّاء والضرّاء، بما في ذلك تحدي روسيا عبر مضيقَي البوسفور والدردنيل.
تستورد تركيا نحو 45 في المئة من استهلاكها من الغاز سنوياً من روسيا، بينما يقوم الروس ببناء مفاعل نووي جنوبي تركيا بقيمة 35 مليار دولار. ويزور أكثر من 6 ملايين روسي سنوياً تركيا، التي تنفّذ شركاتها ما قيمته مليارات الدولارات في مشاريع البناء في روسيا، التي اشترت أنقرة منها ما قيمته 2.5 مليار دولار من صواريخ "أس 400"، ومن دون تفعيلها، بسبب رد الفعل الأميركي. كل ذلك بالإضافة إلى خفايا العلاقة الشخصية بين بوتين وأردوغان، الذي سيُضطرّ، بعد انتكاسته في أوكرانيا، إلى التفكير أكثر من مرة قبل اتخاذ أي قرار ضد روسيا، حتى لو كان يفكر في التحالف مع "تل أبيب". ومن المرجح أيضًا أن تشارك أنقرة في أي جهد منسق لحلف شمال الأطلسي لتعزيز طمأنة الحلفاء في دول البلطيق وأوروبا الشرقية. ومع ذلك، على المدى الطويل، قد يؤدي الصراع إلى إعادة تقييم في العواصم الغربية للأهمية الجيوستراتيجية لتركيا، على غرار الوضع في حقبة الحرب الباردة، والتي، يمكن القول، ان العالم يشهدها مرة أخرى. يمكن لمثل هذا التحول، جنبًا إلى جنب مع الدبلوماسية الذكية في أنقرة، أن يطور بشكل كبير علاقة تركيا مع حلفائها الغربيين الرئيسيين.
سوريا
يتوقّع البعض لخيبة الأمل التركية أن تشجّع الرئيس بوتين على اتخاذ مواقف عملية أكثر ضد الرئيس إردوغان، ليس فقط في أوكرانيا، بل أيضاً في سوريا، حيث حدود تركيا الجنوبية، وفيها الجيش الروسي، كما تشكّل "حدود الكيان المؤقت الشمالية". ويفسّر ذلك الزيارة المهمة والمفاجئة، والتي قام بها وزير الدفاع الروسي شويغو لدمشق، ولقاءَه الرئيسَ الأسد، في الـ 15 من شباط الماضي.
وتتوقَّع المعلومات للتحرك الروسي - السوري المشترك أن يحمل معه مفاجآت مثيرة في إدلب، بعد حسم الحسابات الأولية في كييف، في أسرع ما يمكن. وسيزيد ذلك في أهمية الزيارة التي سيقوم بها الرئيس هرتسوغ لأنقرة في الـ 9 من الشهر المقبل، مع المعلومات الصحافية التي بدأت تتحدث عن تحالف تركي - إسرائيلي جديد لمواجهة السيناريوهات الروسية المحتملة في سوريا، والمنطقة بصورة عامة. وسيحظى هذا التحالف بمباركة الامارات التي زارها إردوغان في الـ 14 من الشهر الجاري، ويقال إنها، ومعها واشنطن، على الخط لتحقيق المصالحة التركية مع "قسد" وكرد سوريا، قبل مصالحتهم مع دمشق. الهدف من كل ذلك هو سدّ الطريق على أي تحرك روسي - سوري مشترك، مدعوم إيرانياً، ضد الوجود الأميركي شرقي الفرات وفي إدلب، الأمر الذي سيختار بوتين من أجله توقيتاً ملائماً يحدّد المصير والمستقبل لعلاقاته بإردوغان شخصياً، وبأنقرة التي لها علاقات متشابكة بموسكو. ويعرف الجميع أن بوتين لا ولن يرتاح إلى الموقف الإسرائيلي في أوكرانيا، التي لا يهمّ "تل أبيب" فيها سوى تهجير200 ألف يهودي منها إلى "إسرائيل"، وهو ما فشلت فيه حتى الآن.
ويصادف كل ذلك المعلومات التي تتحدّث عن مزيد من التحالف الروسي – السوري، في مضامينه العسكرية المتطورة، وهو ما أثبته بوتين في المناورات الروسية الأخيرة، شرقيَّ البحر الأبيض المتوسط، ليشجّع ذلك السيد حسن نصر الله كي يتحدى "تل أبيب"، قولاً وقالباً، عندما أرسل المُسيّرة "حسان" إلى داخل العمق الفلسطيني بعد أن توعّد "إسرائيل" بالصواريخ الدقيقة. كل ذلك لن يمنع "إسرائيل" من الاستمرار في استفزازاتها العسكرية في سوريا ولبنان، وهي التي تعتقد أنها ما زالت مدعومة، بصورة مباشِرة وغير مباشِرة، من واشنطن وحليفاتها في الغرب والمنطقة، والتي تعلم بأن أميركا ستتخلى عنها، كما تخلّت عن زيلينسكي، ومن قبله آخرون كثر. ومع انتظار آخر المعلومات عن مباحثات الملف النووي الإيراني، والذي بات مصيره غامضاً مع تطورات أوكرانيا، ستسعى أنقرة لمزيد من التنسيق والتعاون مع "تل أبيب"، ليس فقط ضد موسكو، بل أيضاً ضد دمشق، من أجل منع أي تقارب عربي أو أوروبي معها، وكي تبقى سوريا مصدراً لاستنزاف الإمكانات الروسية.
كما يهدف التآمر الإقليمي - الإسرائيلي ضد حزب الله في لبنان إلى منعه من تحقيق أي انتصار خلال الانتخابات المقبلة، التي تسعى دول المنطقة لاستخدامها من أجل تشديد الحصار على حزب الله وحلفائه، ومنعهم من أداء أي دور عسكري فعّال ضد "إسرائيل" خلال أي مواجهات محتملة في المنطقة، وهي مواجهات قد تكون مرتبطة بالقرارات الأميركية - الأطلسية المحتملة ضد روسيا. ويعرف الجميع أن روسيا لا ولن تقف مكتوفة اليدَين حيال هذه المخططات والمشاريع، التي ستستنفر واشنطن كل إمكاناتها الإقليمية من أجل مواجهتها. كما ستجعل كل هذه المعطيات، في تفاصيلها السرية والعلنية، أنقرة الطرفَ الأكثر أهمية في حسابات واشنطن وحليفاتها، وخصوصاً بعد التحالف التركي – الإسرائيلي، الذي إنْ تَحَقَّق فالمنطقة مقبلة قريباً على مرحلة مثيرة وساخنة، يريد لها أردوغان أن تساعده على مواجهة حسابات بوتين في إدلب والشمال السوري بصورة عامة. وهو يعي جيداً أن المرحلة المقبلة ستحمل معها عدداً من المفاجآت، التي ستكون سوريا، ومعها لبنان، في الدرجة الأولى، ساحتَيها الرئيستين، والفضلُ في ذلك لتركيا و"الكيان الصهيوني المؤقت"، ومَن معهما في المنطقة، دول الخليج المطبعة.
تعتبر بعض الأوساط الامريكية أنّ الرئيس بوتين لن يترك البلدان التي تتدخل في عمليات روسيا في أوكرانيا بـ "عواقب لم ترها من قبل". فلدى روسيا عدة خيارات لإلحاق الأذى بالغرب في الشرق الأوسط ردًا على العقوبات.
1)قد تؤدي التوترات إلى قيام روسيا بدور معرقل للمصالح الامريكية في سوريا، فقد حذر القائد الجديد للقيادة المركزية الأمريكية، اللفتنانت جنرال مايكل كوريلا، من أن روسيا انتهكت بشكل متزايد بروتوكولات تفادي الاشتباك مع الولايات المتحدة في شرق سوريا في الأشهر الأخيرة. إذا تدهورت العلاقات بشكل أكبر وإذا لم تحترم روسيا آليات تفادي الصراع، فسوف يرتفع منسوب خطر المواجهة، وسيكون أكثر جدية.
2)تخشى بعض الدول الإقليمية أيضًا أن تفتقر روسيا إلى الموارد اللازمة للحفاظ على دورها في سوريا، وهذا الامر قد يترك فراغًا ستملأه القوات الإيرانية - خاصةً إذا تم إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة (JPCOA) وخصصت أسعار النفط المرتفعة المزيد من الأموال في الخزانة الإيرانية.
3)ستتاح لروسيا فرصة واضحة لتقويض الغرب في يوليو المقبل عندما يصوت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على تجديد عمليات الأمم المتحدة الإنسانية عبر الحدود في المناطق التي تسيطر عليها ما يسمى "بالمعارضة" في شمال غرب سوريا. يعتبر الامريكيون أنّ الفيتو الروسي سيعرض للخطر 4 ملايين سوري يعتمدون على المساعدات الانسانية، في الوقت الذي سيزيد الضغط فيه بشكل حاد على تركيا، ويمكن أن يؤدي إلى موجة كبيرة من الهجرة القسرية في شرق البحر الأبيض المتوسط. شددت إدارة بايدن على الدبلوماسية الإنسانية، ومن المرجح أن يؤدي استخدام روسيا لحق النقض (الفيتو) إلى القضاء على أي آمال في التعاون الجاد بشأن الملف السوري بين الولايات المتحدة وروسيا.
4)يمكن ان نضيف هنا الى ان الأمور قد تتجاوز سوريا لتصل الى شمال افريقيا، حيث قد تسعى روسيا إلى زيادة الضغط على أوروبا من خلال تأجيج الصراع في ليبيا في وقت هش لعملية السلام. وبالمثل، يمكن لها أن تستغل تهديد الهجرة غير النظامية من ليبيا لزعزعة استقرار أوروبا مثلما بدأت تظهر اليوم أزمة اللاجئين من أوكرانيا.
5)يمكن لروسيا أن تعقد الدبلوماسية الدولية بشأن الملف النووي الإيراني. في حين أن غزو أوكرانيا لم يعرقل مفاوضات خطة العمل المشتركة الشاملة في فيينا عن مسارها حتى الآن، إلا أن المفاوضات الناجحة ستظل تتطلب عملية تنفيذ دقيقة، ويمكن لروسيا أن تسعى إلى لعب دور معطّل.
الكيان المؤقت
كسر وزير خارجية الكيان المؤقت يائير لابيد صمت بلاده إزاء العملية الروسية في أوكرانيا، واصفا إياها بأنها "انتهاك خطير للنظام الدولي". ثم أعلن بعد ذلك، قائلا "سننضم إلى قرار الأمم المتحدة بإدانة روسيا، وإسرائيل ستكون في الجانب الصحيح من التاريخ". وتكهن المحللون بأن النفوذ العسكري الروسي في سوريا، حيث غض الكرملين الطرف عن الضربات الجوية الإسرائيلية ضد الجيش السوري وحلفائه، قد يقلل من رد تل أبيب على عدوان موسكو في أوروبا.
ويعتبر الإسرائيليون بدون شكّ، ان التطورات الميدانية لصالح روسيا في أوكرانيا لن تكون مريحة لهم، وأنها على العكس ستسمح لروسيا بهامش أوسع للسيطرة والنفوذ. لكن ليس هذا الامر مقلق بالنسبة لهم، انما المقلق والمربك هو ان يعتمد الروس في مواجهتهم للعقوبات الغربية والضغوط الامريكية، على أساليب وأدوات تمكّن أعداء الكيان، من التحرك بحرية أكثر في ساحات يعتبرها تهديدا لأمنه القومي بل لوجوده.
من هذا المنطلق يبحث الإسرائيلي عن فرصة للعب دور وساطة بين الطرفين، تمكنه من إيجاد صيغ مشتركة يكسب بها روسيا من جهة كشريك وداعم دائم له ولكيانه، وفي نفس الوقت لا تخرجه من دائرة المؤيد والداعم لأوكرانيا، لما تشكّله من أهمية للكيان لأسباب كثيرة، اقلها العلاقة مع الرئيس الاوكراني الحالي (اليهودي-الإسرائيلي) إضافة الى العديد من المصالح المشتركة.
بدا الإسرائيلي قلقا ومربكا منذ بداية اعلان العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وانشغال الولايات المتحدة وحلف الناتو بتداعيات هذه العملية، بسبب عدم وضوح نتائجها، وبسبب ما يمكن ان ينجرّ عن هذا الانشغال الأمريكي والغربي من مخاطر يراها الإسرائيلي قريبة جدا ومهددة لوجوده. فمن وجهة نظر صانعي القرار داخل الكيان، انشغال الأمريكي والغرب الداعم له بهذه العملية التي قد تتدحرج لصراع إقليمي ودولي، لن يكون في مصلحة الكيان الذي يعتمد على الحماية الامريكية والغربية في مواجهة من يشكلون خطرا واضحا على وجوده.
من هذا المنطلق التقت المصالح التركية -الإسرائيلية، وبدا ما كان صعب التحقيق منذ فترة، ممكنا اليوم بعد اعلان زيارة رئيس الكيان الى تركيا للاتفاق على ما يمكن ان يضمن مصالح الطرفين في المنطقة بعيدا عن التشابكات والخيارات المتضاربة والتداعيات الاقتصادية والاستراتيجية للصراعات القائمة.
بدا الحديث عن تحالف تركي-إسرائيلي جديا وواقعا، في ظل ما تعيشه المنطقة ككل من متغيرات وتحولات، فبعد سنوات من توتر العلاقات بينهما، تستعد إسرائيل وتركيا لـ"فتح صفحة جديدة"، حيث أثيرت تساؤلات حول أسرار التقارب بين الطرفين، وسط دعوات إسرائيلية لـ"الحذر" من أردوغان!
يبدو واضحا ان الطرفين يستشعران خطورة التحولات الحاصلة في المنطقة، فتركيا مدركة تماما ان ما يحصل من صراع بين روسيا والولايات المتحدة والناتو، سيكلفها الكثير، كذلك الإسرائيلي الذي بدأ ينظر لتداعيات سلبية ستلقي بظلالها على كيانه المهزوز، وستؤدي لازمات كثيرة. كما بدا ان الطرفان يسعيان للبحث عن حلول اقتصادية تضمن استفادة الطرفين بموارد الطاقة المتاحة خاصة في بحر المتوسط، في ظل استطلاعات ومؤشرات تنبؤ بارتفاع الأسعار بشكل جنوني وربما بصراعات جديدة متنقلة لتأمينها واستغلالها.
قد تفتح زيارة الرئيس الإسرائيلي لأنقرة، والتي تحدث عنها أردوغان، صفحة جديدة في العلاقات بين الطرفين، يكون عنوانها الرئيسي التعاون بين الطرفين في مشروع نقل الغاز عبر المتوسط إلى أوروبا، لكن ماتزال هناك العديد من الملفات الشائكة بين الطرفين، في ظل تشكيك إسرائيلي بـ"جدّية" تركيا في إصلاح العلاقات، حيث ماتزال تل أبيب تطالب أنقرة بأن "تكف عن السماح لحماس بالتخطيط لأنشطة عسكرية انطلاقاً من أراضيها، وأن تكون أكثر شفافية بشأن أنشطتها في القدس الشرقية، وأن يخفف أردوغان والمسؤولون الأتراك من حدَّة خطابهم القاسي المناهض لإسرائيل".
امام المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية واستشعار خطر الخسائر التي يمكن ان يتكبدها الطرفان في حال فشل الأمريكي ومن وراءه حلف الناتو في كبح جماح روسيا في شرق أوروبا، ومن ثمة حلفائها في الشرق الأوسط، من المؤكد سيعمل الطرفان على الاستفادة قدر الإمكان من إمكانات كل منهما لحماية مصالحه، ونفوذه وأمنه القومي، إضافة الى كل التداعيات المحتملة التي قد تنجرّ عن هذا الصراع وعلى راسها تأمين الطاقة من نفط وغاز، وتحصين الوضع الاقتصادي، إضافة الى الامن والعسكر.
الكاتب: غرفة التحرير