تقود الولايات المتحدة الأمريكية حملات من الحصار الاقتصادي والمالي على لبنان ليس فقط منذ تشرين الأول عام 2019 بل حتّى ما قبله، والذي بدأ بما يسمى عقوبات على حزب الله و"مصادر تمويله" بشكل مباشر، واتسعت رقعة الضغوط الامريكية لتطال "عقوباتها" أشخاصاً تدعي أن لهم صلة وعلاقة بالحزب أو حتّى لمسؤولين في الدولة اللبنانية بزعم "فساد واختلاس أموال"، في تدخّل صارخ لواشنطن في الشؤون الداخلية اللبنانية التي يتبيّن أنها كانت تراقب وترصد التحويلات والحسابات المصرفية للمسؤولين منتهكةً "السرية المصرفية".
وفي ما يلي عرض تفصيلي واضح "للقرارات" الامريكية في الكونغرس التي ضيّقت الأزمة الاقتصادية على لبنان.
يرى جوزف ناي (2004) الذي عمل كمساعد لوزير الدفاع الأمريكي، أن من شأن استخدام الوجه الثاني للقوة (قاصدًا القوة الناعمة) جذب الناس ورفع مستوى الإعجاب بالسياسة الأمريكية والامتثال لها بعد أن تدنى هذا المستوى إثر استخدام القوة العسكرية والتهديدات المباشرة. فالقوة الناعمة هي المعين الأساس للقوة الصلبة التي يجب تخفيف انعكاساتها المعنوية السلبية على الولايات المتحدة، وهي تشكّل العنصر الثابت في السياسة الأمريكية وتسمح لها بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول.
عند محاولة تدخّلها في شؤون أية دولة، تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية إلى مسوّغ قانوني وشرعي. ويكفيها أن تطلق على فئة معينة وصف "إرهابية" حتى تشرّع تهديداتها وتضع استراتيجياتها ضد الدولة أو الفئة التي وسمتها بالإرهاب. وفي هذا الإطار كانت الولايات المتحدة الأميركية وراء صدور قراري مجلس الأمن رقم 1373 (2001) ورقم 1377 (2001) لخنق مصادر تمويل الإرهاب اللذين صدرا إثر تفجيرات 11 أيلول 2001 بعد أن بيّنت أن من قام بهذه العملية حصل على تمويل بسهولة، ما سهّل على وزارة الخزانة الأمريكية إعلان العمل على ما يُعرف بـ "تجفيف مصادر الإرهاب". ويبدو أن نظام فرض العقوبات الاقتصادية انتقل من يد مجلس الأمن ليد الولايات المتحدة الأميركية، حيث صارت العقوبات إحدى أدوات السياسات الخارجية لها، تستخدمها بديلًا عن الحرب العسكرية المكلفة.
فعلاوة على هذين القرارين، يعتبر الخبير في القانون الدولي بول مرقص (2009) أن صدور سياسات وقوانين أمريكية بعنوان الحرب على الإرهاب (مستعملًا نصوص قانون "باتريوت" التنظيمية كمثال) علامة على صلاحيات السلطة الأمريكية الواسعة التي قد تصل إلى حد طلبها الكشف عن معلومات خصوصية حول زبائن مصارف أجنبية تابعة للبلد المتهم باحتوائه منظمة أو فئة متهمة بالإرهاب تحت طائلة وقف التعامل مع هذه المصارف وتعريضها لدوامة من العقوبات التي إذا ما طُبّقت على القطاع المصرفي المحلي لن يتحمل عواقبها. واعتبر مرقص أن المصرفيين والتجار في العالم ملزمون بلائحة مكتب مراقبة الأصول الأجنبية OFAC
مكتب مراقبة الأصول الأجنبية OFAC
عرّف موقع وزارة الخزنة الأمريكية مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) التابع لها بوصفه المكتب الذي يتولى إدارة وإنفاذ العقوبات الاقتصادية والتجارية بناءً على السياسة الخارجية الأمريكية وأهداف الأمن القومي ضد البلدان أو المنظمات أو الأفراد، مثل الإرهابيين وتجار المخدرات. يمكن أن تكون العقوبات شاملة أو انتقائية، باستخدام حظر الأصول والقيود التجارية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية.
هذا الحظر للأصول يؤدي إلى قطع التعامل مع المصرف أو المجموعة أو الفرد المحظور من قبل المصارف التي تراسلهم في الولايات المتحدة وتاليًا تعثّر عملياته المصرفية الدولية. ويفرض الحظر فور وروده حظرًا شاملاً على عمليات النقل أو المعاملات من أي نوع فيما يتعلق بالممتلكات. ما يعني أن أوفاك تمتلك صلاحية إطلاق قرار حظر على ممتلكات أحزاب في بلدان معينة، منع التعامل مع الأشخاص المحظورين، وإجراء تحقيقات مدنية في انتهاكات العقوبات، وفرض عقوبات مدنية على الأشخاص الذين ترى أنهم انتهكوا تلك العقوبات. بمعنى آخر، يكون الحظر طريقة للتحكم في الممتلكات المستهدفة وبالتالي نهبها. تجدر الإشارة إلى جواز اعتراض الأشخاص (أو الدول) المدرجة أسماؤهم على اللوائح عن طريق "إعادة النظر الإداري" في إدراجها ثم طلب إزالتها عن اللائحة، وآخر هذه الإجراءات هو الطعن في تسمية أوفاك عن طريق رفع دعوى قضائية أمام المحكمة الفيدرالية وهي عملية مكلفة وتستغرق وقتًا طويلًا.
اعتبر مرقص أن أوفاك هي وكالة إنفاذ للقوانين وليست منظمة مستقلة أو قائمة بذاتها، ومن أهم هذه القوانين: قانون القوى الاقتصادية الطارئة الدولية (1977)، وقانون مكافحة الإرهاب والإعدام الفعلي (1996).
نستفيد من هذا العرض أن لوائح "أوفاك" هي خطوة عالمية لمكافحة الحرب العالمية لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، لكن يتحتم علينا الإشارة إلى الاعتبارات السياسية التي تدخل فيها، فمن تعتبره الولايات المتحدة خصمًا لسياستها يمكن أن تضعه على لوائح "أوفاك" وهذا ما حصل عند إدراج العقوبات على إيران وكوبا، ومع حزب الله، فهنا لا يمكن أن ننزع الطابع السياسي من توجهات ساسة الولايات المتحدة المالية والمصرفية، لأنهم واضحون بنيَّتهم محاربة حزب الله ومحاصرتهم وعزلهم ماليًّا.
أصدر الكونغرس في شهر كانون الأول 2015 قرارًا يتعلق بمحاصرة حزب الله، ما يعني أن الخزانة الأميركية تعتمد على قوانين تصدر من المجالس النيابية الأميركية وتصدر لوائح بأسماء متهمين تحت عنوان "حرصها على عدم إدخال الأموال المشبوهة إلى النظام المصرفي الأميركي"، وتحكم على مصارفها وعلى المصارف العاملة لديها بأن لا تسمح بدخول هذه "الأموال المشبوهة" تحت طائلة إقفال حساب المصرف مع المصارف الدولية. وبما أن كل مصارف العالم ومنها لبنان مضطرة للتعامل مع مصارف مراسلة، تسعى المصارف لإزالة المخاطر عن نفسها كي لا تتعرض للملاحقة القانونية، ومن هنا يتحتّم على لبنان أن يلتزم بهذه العولمة المصرفية وقوانين المنظمات المصرفية الكبرى. وقد تم في هذا الإطار إنشاء هيئة التحقيق الخاصة الصادرة عن رئيس مجلس الوزراء قانون رقم 318 (2001) تعمل على محاولة التوفيق بين الامتثال للمعايير الأمريكية في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وبين تطبيق قانون السرية المصرفية، وتكشف هذه الهيئة الحسابات والمعلومات المصرفية للإدارة الأمريكية وأجهزتها بشكل شبه تلقائي.
قانون حظر التمويل الدولي عن حزب الله HIFPA)) أو القانون رقم 2297
في محاولة "تطويق مصادر حزب الله المالية"، أقر الكونغرس الأمريكي قانون حظر التمويل الدولي عن حزب الله تحت رقم 2297 في جلسته الأولى المنعقدة في 6 كانون الأول 2015 وصدَق عليه في 18 كانون الأول من السنة (2015).
الهدف من القانون هو منع حزب الله والكيانات المرتبطة به من النفاذ إلى مؤسسات مالية دولية أو مؤسسات أخرى، وفرض أشد العقوبات الأميركية على الحزب وأي منظمة أو فرد تابع لها، وعلى أي مؤسسة مالية في أي مكان في العالم تسهل أنشطته. ومن ثم منع شبكة حزب الله اللوجستية والمالية العالمية من العمل على أمل الحد من تمويل أنشطته المحلية والدولية، واستخدام الطرق الدبلوماسية والتشريعية والتنفيذية كافة لمكافحة أنشطة حزب الله "الإجراميّة العالمية"، كوسيلة للحد من قدرة هذا التنظيم على تمويل أنشطته "الإرهابية العالمية".
وقد اعتبر المستشار القانوني الدولي علي زبيب (2016) استعمال مصطلح "الإجراميّة" عوضًا عن "الإرهابية" في توصيف القانون الأمريكي لحزب الله أن جهات حكوميّة أمريكية جديدة باتت مخوّلة بملاحقة حزب الله وكل ما يرتبط به، وهي لجان الكونغرس المتخصّصة، ومكتب الاستخبارات ضمن وزارة الخزانة الأميركيّة، وطبعًا السلطات الأمريكية المعنيّة بمكافحة تبييض الأموال وغيرها من الجرائم المنظّمة. أصبحت إذًا معظم الهيئات الحكومية الأمريكية معنيّة بملاحقة هذا الحزب.
قانون ماغنيتسكي
ادعت واشنطن أن المحامي الروسي سيرغي ماغنيتسكي الذي كان معتقلًا في السجون الروسية بتهمة التهرب الضريبي قد تعرّض للتعذيب والحرمان من الرعاية الطبية وترك ليموت في سجنه (2009).
عند موته كرّس المستثمر الأمريكي والبريطاني بيل برودر الذي كان يعمل مع ماغنيتسكي قبل اعتقاله جهوده لإقناع الكونغرس الأمريكي بوضع قانون يعاقب قتلة ماغنيتسكي، فوضع الكونغرس القانون بهدف معاقبة مسؤولين حكوميين روس بتهمة انتهاك حقوق الإنسان ثم صادق عليه الرئيس الأمريكي حينها باراك أوباما (2012). ثم لاحقًا (2016)، تم تخطي رقعة تطبيق هذا القانون، فلم يعد محصورًا بروسيا، لتقوم واشنطن بناء عليه بفرض عقوبات على من تعتبرهم مسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان على نطاق عالمي. ومن خلال هذا القانون، تستطيع حكومة الولايات المتحدة، منع دخول أي مسؤول، أو شخص إلى الأراضي الأمريكية، بالإضافة إلى تجميد أصولهم المالية. ومن ثم وقع الرئيس دونالد ترامب (2017)، الأمر التنفيذي رقم 13818، الذي "يجمّد ممتلكات الأشخاص المتورطين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو الفساد".
في الميدان اللبناني، أفاد مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى في مؤتمر صحفي له (شينكر، 2020) أن أحكام قانون ماغنيتسكي التي طالت الوزيرين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس (2020) قد فرضت عليهما لأنهما قدّما دعمًا ماديًا لحزب الله، ثم هدد حلفاء الحزب قائلًا إن "الحلفاء السياسيين لحزب الله يجب أن يعرفوا أنهم سيحاسبون بسبب تسهيل نشاطات الحزب الإرهابية. وأن العقوبات التي تستهدف حزب الله وداعميه ولاعبين فاسدين آخرين ستتواصل وسنستخدم كل الصلاحيات لمحاسبة القادة اللبنانيين لفشلهم في القيام بواجباتهم تجاه الشعب اللبناني".
على أن هذا الخطاب أعقبه إعلان إضافة الوزير السابق جبران باسيل على لائحة "أوفاك" للعقوبات (2020) بتهمة دوره في نشر الفساد في لبنان، في الوقت الذي كان من المتوقع أن تشمل اللائحة حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، المتهم بالفساد المرتبط بملف التحويلات المالية، إذ أفادت وكالة "بلومبيرغ" (2021) أن مكتب المدعي العام السويسري كان قد طلب المساعدة من الحكومة اللبنانية في التحقيق في غسل الأموال المرتبط باختلاس محتمل من خزائن مصرف لبنان. ولم تحدد السلطات السويسرية الهدف من تحقيقها في حين قال القضاء اللبناني إنه تم الاتصال بها بشأن التحويلات إلى الخارج التي تمت عن طريق البنك المركزي. ورغم أن التحقيق السويسري يعطي زخمًا، إلا أن العقوبات الأمريكية المحتملة لا تعتمد على نتائجه بقدر ما تعتمد على تغيير الحسابات السياسية، على حد قولهم. هذا وأشارت الوكالة أن سلامة قد حصل في أواخر عام 2019 على درجة A من مجلة Global Finance التي تتخذ من نيويورك مقرًا لها في تصنيفاتها السنوية، على اعتباره عمل على استقرار العملة اللبنانية بينما واقعًا كان الاقتصاد اللبناني يشهد الانهيار. وبحسب وكالة رويترز (2021)، فقد نفى متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية بأن الوزارة تدرس فرض عقوبات على سلامة الذي أصبح دوره في الاضطرابات المالية التي تشهدها البلاد محل تدقيق. وأعلن سلامة أنه سيقيم دعاوى قضائية ضد بلومبيرج بسبب ما وصفها "بأخبار مفبركة."
أما على صعيد توصيف العقوبة على باسيل، قال وزير الخزانة ستيفن منوشين (اللواء، 2020): "لقد ساعد الفساد الممنهج في النظام السياسي اللبناني الذي مثّله باسيل، على تقويض أسس حكومة فعالة تخدم الشعب اللبناني." وأعلن أن "جميع الممتلكات والمصالح في ممتلكات باسيل، وأي كيانات يمتلكها، بشكل مباشر أو غير مباشر، 50 في المائة أو أكثر، بشكل فردي، أو مع أشخاص محظورين آخرين، في الولايات المتحدة يتم حظرها في الدول أو تلك الموجودة في حوزة أو سيطرة الأشخاص الأميركيين ويجب إبلاغ مكتب مراقبة الأصول الأجنبية عنها."
وقد لفت موقع "ميدل إيست آي" البريطاني (2020) أن لبنان كان تحت رقابة دقيقة من وزارة الخزانة الأمريكية على مدى العقدين الماضيين بسبب "عمليات غسيل أموال محتملة"، أو "تمويل جماعات صنّفتها الولايات المتحدة كإرهابية". ما يدل أنها كانت على اطلاع على حجم التحاويل المصرفيّة من لبنانيين إلى سويسرا التي كشفت أن "العملاء اللبنانيين جمعوا أموالًا في سويسرا أكثر من أي وقت مضى العام 2020. هذا إضافةً إلى أن الولايات المتحدة التي لم تشارك في "المنتدى العالمي للشفافية وتبادل المعلومات" وبالتالي لم تنشر معلومات عن قيمة التحاويل من لبنان إليها.
الكاتب: غرفة التحرير