عندما بدأ توقيع اتفاقيات التطبيع مع الكيان الاسرائيلي برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ عام تقريباً، أبدى نتنياهو سعادة لا توصف، وقال إن التطبيع سيُنهي عزلة "اسرائيل" الجغرافية. ولكن مهلاً! ماذا حدث في المملكة المغربية منذ يومين خلال زيارة وزير الحرب الإسرائيلي بني غانتس، وخروج المظاهرات المنددة بالإتفاق مع الكيان، ودعماً لفلسطين! أليس الشعب المغربي الذي تسبب في عزلة الكيان، وعدم تجرئه على زيارة الأردن ومصر، بعد ثلاثين عاماً من توقيع معاهدات السلام.
وأما إذ كان العزل الجغرافي، الذي تحدث عنه نتنياهو هو فتح الأجواء العربية للطائرات القادمة والمغادرة لمطار تل أبيب هو ما يجعل هذه الاتفاقيات حدثاً أهم من اتفاقيات وادي عربة أو كامب ديفيد أو أوسلو، فهو يمخر عباب أجواءها كما يريد.
لقد حفرت الإتفاقيات الثلاث في الأردن ومصر وفلسطين خندقاً عميقاً ما بينها وبين قياداتها، التي خرجت عن الإرادة الشعبية وأذعنت للإرادة الأميركية، واليوم لا يمكنها الإستمرار في خارج إطار هذه الإرادة. ولكن للشعب كلام آخر، فالسادات قتله أحرار مصر، التي لم يتقبل أبناؤها يوماً العلاقة مع الإسرائيلي، وعلى الرغم من اتفاقية السلام التي وُقِعت، بقيت مسلسلات مصر من "رأفت الهجان" إلى "ليالي الحلمية" وغيرها تتحدث عن بطولات الجيش المصري في قتال "إسرائيل"، وعداء الشعب المصري للكيان، وعن خيبة الأمر من توقيع اتفاق السلام، وهذا ما تلمسه عند لقاء المصريين في الشوارع او في المنتديات، والأمر ذاته يحدث في العديد من الدول العربية.
وما حدث منذ يومين، في 26/11، في الأردن، من مظاهرات عمّت شوارع عمان وهي تهتف بشعارات ضد التطبيع، وضد اتفاقيات الماء والكهرباء، وأن غاز العدو احتلال، والنداء الذي صدح بسقوط اتفاق وادي عربة، لم يكن الأول بعد العام 1992 ولن يكون الأخير. وحتى اليوم، يرفض الأردنيون التطبيع مع "اسرائيل". ولنكن واضحين التطبيع مع الأنظمة في الإمارات والبحرين ليس مفاجئاً، ولن يكون مفاجئاً في قطر، والتي لديها مكتب لتنظيم العلاقات التجارية مع اسرائيل منذ تسعينات القرن الماضي، ولن يكون صادماً إذا ما استلم محمد بن سلمان الحكم ووقع، اذ لم يعبر حكام الخليج وخاصة في الإمارات والسعودية عن طموح الشعب العربي وتطلعاته في أي مكان، بل كانوا دائماً مصدر خيبة وأمل لا يرتجى منهم. وفي الحقيقة، ما عدا المظاهرات في البحرين فنحن لا نعلم شيئاً عن أهلنا في الجزيرة العربية.
وبالتالي، ليس مفاجئاً أيضاً خروج المظاهرات في الرباط في وقت تزامن مع زيارة وزير الحرب الاسرائيلي بيني غانتس في 23 من هذا الشهر من أجل توقيع اتفاق أمني. وهذه ليست المرة الأولى التي تخرج فيها مظاهرات في المغرب ضد التطبيع، فقد خرجت المظاهرات في يوم الأرض في العام 2020، والتي نادت بالوقوف إلى جانب فلسطين وأهلها، ولكن يبدو أن حكام العرب في واد وأهل البلاد في واد آخر.
ولم يتوقف الرد الشعبي المغربي على زيارة غانتس والتطبيع بالمظاهرات فقط، بل تم تفجير حافلة تحمل 45 سائحاً "اسرائيلياً" كانت على الطريق بين بوقنادل وسلا في المغرب، بعد يومين على الزيارة المشؤومة، بحسب ما نشر على وسائل التواصل الإجتماعي، والتي ستبقى خفية عن عين الإعلام. وحتى لو لم يكن هناك حافلة سياح "اسرائيليين" قد انفجرت، فالرسالة بحد ذاتها تحذير واضح برفض وجودهم في المغرب.
الزيارة التي أثارت الجزائر، واعتبر رئيسها عبد المجيد تبون أن بلاده هي المستهدفة منها، إذ أنّه من المعروف أن موافقة المغرب على التطبيع لم تأت إلا بعد اعتراف ترامب بالصحراء الغربية كجزء من أراضي المملكة المغربية في 2020، وعندها توعدت الجهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء، المدعومة من قبل الجزائر، بتصعيد الكفاح المسلح ضد المغرب. واليوم، وقّعت المغرب اتفاقين مهمين:
الأول يقضي ببيع المغرب التكنولوجيا "الإسرائيلية"، ودعم سلاح المغرب بالمسيرات.
الثاني جاء قبل شهر تقريباً اذ وقع اتفاق لبدء شركة راتيو بيتروليوم الإسرائيلية من أجل استكشاف حقول الغاز في ساحل الداخلة بالصحراء الغربية.
ما فعلته الحكومة والملك المغربيين فاق التوقعات، حيث استجلب هؤلاء الموساد الإسرائيلي، بحسب تعبير صحيفة "ليسكسبريسون"،ورسّخوا حضوره عند الحدود الغربية للجزائر، الرافضة قيادة وشعباً للتطبيع، وبهدف الضغط العسكري والأمني عليها.
وللجزائر طوال فترة التسعينات تجربة سيئة مع الإرهاب التكفيري، الذي جاء مدعوماً من السعودية وفرنسا والولايات المتحدة و"اسرائيل"، ومن حق الجزائر أن تتخوف من الخطر الاسرائيلي الذي يتربص بأرضها. ومشكلة الجزائر مع المجتمع الدولي، رفضها للتطبيع وأنها دولة وشعباً ما تزال حتى اليوم تعتبر ان القضية الفلسطينية هي قضيتها المركزية، ورفض أية علاقة مع الكيان الغاصب. ولا يمكننا أن نعتبر أن الخطر المداهم للجزائر بسبب تواجد الموساد يتربص بها فقط، بل الخطر أيضا على باقي دول المغرب العربي ومنها تونس وليبيا وموريتانيا، والتي كانت دائماً مع القضية الفلسطينية، وحتى أن فدائيي المغرب العربي، من ليبيا وحتى موريتانيا، قد قاتلوا إلى جانب فدائيي فلسطين والمشرق العربي في العرقوب، وعلى مدى سنوات طوال حتى خروج جبهة التحرير الفلسطينية من لبنان في العام 1982، وفي حرب تشرين التحريرية في العام 1973، كان أداء الجيوش العربية المغربية على الجبهتين السورية والمصرية أسطورياً، إنه التحام الدم العربي.
ولذا فمن الطبيعي أن تدين "الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة والمبادرة المغربية لدعم الشعب الفلسطيني" زيارة غانتس والتطبيع مع الكيان، وإذا ما كانت التظاهرات في أكثر من أربعين مدينة وقرية ضد هذه الزيارة فذلك ليس بغريب على المغرب، والمغرب العربي بأكمله. فقد دعا مناهضو التطبيع في المغرب، في يوم الأرض في 30 آذار/ مارس 2021، إلى تنظيم وقفات احتجاجية تحت شعار "يوم الأرض.. نضال متواصل لإسقاط التطبيع". وأعربت الهيئة يومها عن "أسفها لكون تخليد ذكرى يوم الأرض في المغرب هذا العام سيكون بـ"طعم مر"، بسبب "الخطوة الخيانية المتمثلة في توقيع اتفاقيات معلنة ومكشوفة مع إسرائيل".
ولذلك عندما يصرح الرئيس الجزائري تبون بأن ليس هناك من إخوانه العرب من يساند الجزائر، فمن الطبيعي أن يوفد الرئيس التونسي قيس سعيد العروبي رئيسة الوزاء نجلاء بودن في الخامس والعشرين، وبعد خطاب الرئيس تبون مباشرة، لزيارة الجزائر ليعلن عن تضامنه معه. اذ جاء في بيان "زيارة الأخوة" كما وصفتها رئاسة الحكومة التونسية، أنها تأتي "تأكيدا للعلاقات التونسية الجزائرية المتينة وتترجم ارادة قيادتي البلدين للارتقاء بهذه العلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية المتضامنة والمستديمة، استجابة لتطلعات الشعبين الشقيقين".
موقف الرئيس سعيد نحو قضايا الأمة العربية وفي مقدمتها فلسطين، والذي عبّر عنها خلال خطاب القسم الذي فاجئ الجميع يومها، بوقوفه إلى جانب سوريا وفلسطين وحركات المقاومة في وقت كان يظن فيه الجميع أن تونس ذاهبة إلى التطبيع مع "اسرائيل". ولكنه ليس مفاجئاً في السياق العام لمواقف الشعب العربي المغربي، الذي نلتقي معه في المحافل العربية والذي يثبت فيها في كل مرة أن التزامه بقضية فلسطين عربياً وانسانياً هو أكبر بكثير من أن ينال منها تطبيع ملك المغرب.
والمغرب العربي في شعبه يا سادة لا يمكن أن يشبه أذناب التطبيع، وهو جزء لا يتجزأ من النضال في مشرقه. وحتى اليوم لم يتجرأ المغرب الرسمي على إقامة سفارات ما بينه وبين الكيان، وممثل الكيان في المغرب غادرها قبل أسبوع من زيارة غانتس بحجة زيارة والده المريض، فهل يجرؤ على العودة؟
الكاتب: عبير بسّام