"إن أمريكا ليست القوة العظمى العالمية فعلا وحسب، بل وقد تكون الأخيرة تحديدا"- برجينسكي: رقعة الشطرنج الكبرى
بعدما قسم أصحاب نظريات الجيويبوليتيك الغربي الخريطة العالمية ووضعهم النقاط الأساسية لكيفية فرضهم السيطرة على العالم، وبعدما تحدثوا عن الجزيرة العالمية، وأوراسيا، وتقسيم الكرة الأرضية بين الإطار والهوامش وقلب الأرض، وكانت الخلاصة أن من يسيطر على قلب العالم يسيطر على العالم وضعت افغانستان وإيران تحت مجهر القوى الكبرى للسيطرة عليهما، وقد المح ماكيندر بقوله:" أن إيران وأفغانستان دولتان مركزيتان في قلب العالم".
لماذا أفغانستان؟
أفغانستان التي سميت بمقبرة الأمبراطوريات كانت بشكل دائم هدفا لأعتى القوى العالمية وهزمتهم جميعا وكان آخرهم هزيمة الأمبراطورية الأمريكية، ففي الصراع بين الفرس والإغريق وصل الإسكندر الى افغانستان، وفي التنافس بين الإنكليز والروس احتلها الجيش البريطاني لحماية الهند من التهديد الروسي، ثم الدخول السوفياتي على أفغانستان 1978، ثم الإحتلال الأمريكي عام 2001.
أفغانستان كموقع جيوسياسي هي عقدة آسيا والمجال الحيوي الضروري لكافة الدول المحيطة بها عسكريا ـ وتجاريا ـ وعلى صعيد المواصلات، فهي عمق حيوي روسي من ناحية الشمال، وعمق حيوي صيني من ناحية الجنوب الشرقي، وعمق حيوي إيراني من ناحية الجنوب الغربي، وفي الموروث الشعبي تمثل عقدة غورديان التي قيل للإسكندر المقدوني عنها أن من يستطيع حلها يحكم آسيا، فهذا البلد هو بوابة لمن يريد أن يدخل الى عمق آسيا أو يخرج منها أو يمر عبرها
هذا الحدث يظهر التحول في الجيوبوليتيك إلى أسلوب جديد في السيطرة العالمية ويثبت فشل القوى البحريه، وأنه بعد مئات السنين وعشرات الحروب الضخمة أن القوى البرية أقدر في حماية نفسها وأقدر في تشكيل قوة طاردة للدخيل.
إن الإختراق الأمريكي البحري لعمق قاري أثبت فشله في تحقيق أي تحول أساسي وما كسبته الولايات المتحدة من غزوها لأفغانستان هو الوقت فقط وتأخير إعلان بداية أفولها العملي كقوة عالمية عظمى، ما رأيناه في أفغانستان وطريقة غزوها في الأصل كان إستراتيجية مختلفة عن كونها تعتمد على القوة البحرية كأداة سيطرة، ولأن أفغانستان تشكل في الجغرافيا قلعة قاريه محمية إعتمدت الولايات المتحدة على القوة الجوية في عملية غزوها وهو ما تكلم عنه عالم الجيوبوليتيك السوفياتي
"سافرسكي" أي السيطرة عن طريق الجو
إن وجود ثلاث قوى بريه آسيوية بجغرافيتها وتكوينها "الصين/روسيا/وإيران" ، شكل بطبيعة الأحوال قوة طاردة وتلقائية لأمريكا البحريه من الملعب الآسيوي، وإذا عدنا الى الموروث اليوناني القديم والصراع بين " بوسيدون" إله البحر و"هيدز" إله الأرض نرى مجددا أن اله الأرض هزم إله البحر.
وبما نمثله من التشبيه نرى أن ما حصل أنه الحلقة الأخيرة في تاريخ القوى الإستعمارية، وأن هذا الحدث هو بمثابة ركله أخرجت أمريكا والناتو من قلب آسيا، وما يجري من أحداث سريعه ومتتابعة ومتواصلة ستخرجهم من غرب آسيا، وتسارع الأحداث ستوصلهم إلى إنكماش جيوسياسي غير مسبوق عندما يفقدون السيطرة على ما تشكله منطقة غرب أسيا بالتحديد من مفصل أساسي لطرق التجارة العالميه أولا، وما تشكله آسيا بشكل عام من إنتاج إقتصادي جديد وإستعمال مخزوناتها وثرواتها الطبيعية بالأسلوب الصحيح، فما يذكره مؤرخو الإقتصاد أن آسيا هي المنتج الأول إقتصاديا وبقيت أعلى السلم حتى عام 1800 .
ما حدث في أفغانستان هو بداية الأفول الغربي الأمريكي الناتوي، وهو نهاية الزواج الجيوسياسي الأوروبي الأمريكي " الناتو" ، وبالتالي فإن الجغرافيا التي فرضت كلمتها الأخيرة، وأنهت في آواخر القرن العشرين حلف وارسو والإتحاد السوفياتي، وفي بداية القرن الواحد والعشرين نراها تنهي حلف الناتو والولايات المتحدة، ونرى أنه بعد التشتت الجيوسياسي الآسيوي الذي وصل الى ذروته في القرن العشرين هناك انبعاث لقوة آسيا من جديد التي ركلت الولايات المتحدة خارج عمقها، وفي الطريق نحو ركلها من الإطار الشاطئي الممتد من اليابان في أقصى شرقها الشمالي إلى باب المندب في أقصى غربها الجنوبي، فكل الدول التي تحلق في فضاءها من كوريا الجنوبية إلى تايوان ودول الخليج العربيه، وإسرائيل خاصة ستكون لها حسابات مختلفة نتيجة التكوين الجيوسياسي الجديد، وفي هذه الحالة سيكون قمة الطموح الأمريكي إحلال الفوضى وإعادة تفعيل مناطق الصراع على مستوى آسيا ككل من الحدود الصينية الروسية الى كشمير الى تايوان وبحر الصين والحدود الصينية الهندية، وبالتالي فإن هذه الفوضى تحسب حسابها جيدا القوى الآسيوية الثلاث ( الصين ـ روسيا ـ ايران ) لقطع الطريق على الإرادة الأمريكية التي لم يعد أمامها سوى العمل الحثيث لإحلال الفوضى كبديل لتراجعها، وستشكل أفغانستان النموذج العملي للقوى الثلاث بأن تكون مستقرة وآمنه، وستشكل قطب التحالف الثلاثي على الصعيد الجيوسياسي والإقتصادي والأمني، ومنها سيعمم نموذج ما بعد أمريكا.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي موقع الخنادق
الكاتب: محمد إبراهيم