في لحظات الاحتضار الإمبراطوري، تلجأ الدول الاستعمارية إلى آخر أدواتها: العنف العاري، غير المقنّع. وحين تعجز القوة عن إنتاج الانتصار، يُعاد تعريف الهزيمة على أنها "مرحلة انتقالية نحو النصر"، ويصبح التهديد بدلًا من الفعل العسكري غطاءً للعجز لا أداة لتحقيق الأهداف. هذا هو السياق الحقيقي لفهم التهديدات الإسرائيلية الأخيرة بما يُسمى "ضغطًا عسكريًا حقيقيًا" في غزة.
الكذبة الكبرى: "الضغط العسكري" في مواجهة مقاومة لا تُهزم
منذ تسعة أشهر، تحوّلت غزة إلى مختبر حيّ لاختبار مدى ما يمكن للإبادة الجماعية أن تحققه في عصرٍ تُهيمن عليه القوة الأميركية وتغلفه الأكاذيب الإعلامية. ومع ذلك، لا تزال المقاومة الفلسطينية تَصمد، تُقاتل، وتُبدع تكتيكاتها في عمق الميدان، في حين يعجز "الجيش الإسرائيلي"، مدعومًا بأحدث ما توفّره الصناعة العسكرية الأميركية، عن كسر إرادة "المحاصرين".
يأتي التهديد بما يُسمّى "ضغطًا عسكريًا حقيقيًا" ليس كنتيجة لتصاعد قوة "إسرائيل"، بل كنتاج لعجزها المزمن. التهديد هنا ليس تعبيرًا عن خطة جديدة، بل هو جزء من استراتيجية خطابية هدفها الضغط في المفاوضات، وإعادة تعريف المأزق بوصفه "مقدمة" لانتصار قادم. لكن، كما يعرف من يقرأ التاريخ جيدًا، فإن الدول التي تعتمد على الخطاب بدلًا من القوة الفعلية، إنما تعترف ضمنيًا بانهيار قدرتها على صناعة الحقائق الميدانية.
"إسرائيل" والمأزق المضاعف: بين عجز عسكري واستحالة سياسية
تهديد "إسرائيل" بـ"عملية أكثر تصعيدًا" يعكس اعترافًا ضمنيًا بأن العمليات السابقة – بما في ذلك "عربات جدعون"، التي وُصفت بأنها ذروة الحرب – لم تنجح في تحقيق أي من الأهداف الأساسية: لا تحرير الأسرى، ولا القضاء على حماس، ولا فرض نظام سياسي بديل في غزة. إن التهديد بتصعيد جديد يشبه محاولة إقناع النفس بالقدرة على الانتصار من خلال تكرار الخطاب ذاته.
إن "إسرائيل" تعيش مأزقًا سياسيًا وعسكريًا في آنٍ معًا. ومع استمرار عمليات المقاومة في بيت حانون ورفح وخانيونيس وغيرها، لم تعد "إسرائيل" قادرة حتى على حماية جنودها من كمائن مدروسة تؤدي إلى قتلهم أو أسرهم أو انسحابهم المذلّ. والنتيجة؟ الانتقال من الخطاب المنتصر إلى الخطاب التهديدي، ومن الحرب إلى التهديد بالحرب.
خطاب "التفاوض تحت النار": تكتيك استعماري مستعاد
حين يقول "مسؤول إسرائيلي" إن الجيش سيُنشئ "تهديدًا عسكريًا حقيقيًا في مناطق معينة لدفع حماس نحو صفقة جزئية"، فهو يستعيد خطابًا استعماريًا كلاسيكيًا لطالما استخدمته القوى الإمبريالية. في الجزائر، كما في فيتنام، وكما في جنوب أفريقيا، سعت القوى الاستعمارية إلى إكراه حركات التحرر على التفاوض من موقع ضعف، تحت ضغط نيران الحرب. لكن، كما علمتنا دروس تلك الحروب، فإن المقاومة الحقيقية لا تتنازل تحت النار، بل تزداد عنادًا.
"إسرائيل"، اليوم، لا تملك القدرة على فرض واقع عسكري في غزة، لذا فإنها تسعى إلى خلق "واقع وهمي"، عبر نشر وحدات استطلاع، وتوسيع السيطرة على محاور جزئية، ومن ثم تقديم ذلك على أنه "احتلال حقيقي". لكن المقاومة الفلسطينية تدرك هذا، وتُصوّب هجماتها ضد وحدات الاستطلاع تحديدًا، لأنها تعلم أن بنك الأهداف "الإسرائيلي" هشّ، وأن أية محاولة لصناعة وقائع ميدانية ستكون كلفتها باهظة.
خلف الكواليس: دعم أميركي لإطالة الحرب
هنا يتدخّل العامل الدولي. بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت، فإن التنسيق جارٍ بين "إسرائيل" والولايات المتحدة لزيادة الضغط على حماس. هذه العبارة البسيطة تختزل الكثير: فكما في كل لحظة تاريخية من مشروع الاستعمار "الإسرائيلي"، فإن واشنطن هي الضامن، والمموّل، والمبرّر.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب – الذي يلهث نحو جائزة نوبل لسلام ويستند إلى قاعدة يمينية صهيونية متطرفة – لا يُخفي تأييده المطلق "لإسرائيل"، لكنه يذهب أبعد من ذلك: يمنحها "الضوء الأخضر" لارتكاب مزيد من المجازر، لا لأن هذه المجازر تؤدي إلى أهداف سياسية، بل لأنها تُنعش سردية الحرب، وتُطيل أمد الأزمة، وتمنع أي نصر سياسي لحماس، حتى لو كان ذلك النصر مجرد وقفٍ لإطلاق النار.
وهنا تلتقي الحاجة "الإسرائيلية" بالبوصلة الإمبريالية الأميركية: "إسرائيل" تحتاج إلى استعراض القوة لحماية نتنياهو من السقوط السياسي، وواشنطن تحتاج إلى استمرار الحرب لحرمان الفلسطينيين من أي مكسب سياسي يهدّد الهيمنة الأميركية على المنطقة.
من المفاوضات إلى الإخضاع: جوهر الاستراتيجية الصهيونية
منذ اليوم الأول للحرب، كانت "إسرائيل" تُريد شيئًا واحدًا فقط: نزع سلاح المقاومة، وتفكيك بنيتها الاجتماعية، وتحويل غزة إلى "منطقة آمنة" للسيطرة "الإسرائيلية". لكن بعد أكثر من 22 أشهر، لا تزال هذه الأهداف بعيدة كل البعد عن التحقق. لذلك، يتم اللجوء الآن إلى استراتيجية "التفاوض تحت الإخضاع"، أي محاولة فرض شروط التفاوض بالقوة، ومن ثم الحصول على تنازلات تُقدَّم لاحقًا بوصفها "تنازلات إنسانية".
هذه الاستراتيجية لا تختلف عن منطق الحصار الشامل الذي تُمارسه "إسرائيل" والولايات المتحدة ضد أي كيان مقاوم: من كوبا إلى العراق، ومن إيران إلى غزة. جوهرها هو تجويع السكان، ضرب البنى التحتية، إغلاق الأفق السياسي، ثم فرض "تفاوض إنساني" يُنتج تبعية لا شراكة.
بين المقاومة والسياسة: من يملك زمام المبادرة؟
لكن، وعلى عكس كل السيناريوهات التي بُنيت على استسلام غزة، فإن الوقائع الميدانية تقول شيئًا آخر. فالمقاومة، بحسب البيانات العسكرية للمقاومة الفلسطينية والفيديوهات التي تنشرها بشكل شبه يومي، باتت تُصعّد من عملياتها لا لأنها متهورة، بل لأنها تُدرك طبيعة المرحلة: الاحتلال يُريد تثبيت واقع استسلامي، والمقاومة تُريد قلب الطاولة.
كما أن جيش الاحتلال بات يعتمد تكتيك "استطلاع الحصار" لا الاحتلال الكامل، ما يُشير إلى محدودية قدراته البرية. وهذا بالضبط ما تُدركه المقاومة، إذ لا تسمح له بإعادة بناء بنك أهداف، وتستهدف وحداته المتقدمة لضرب أعماقه الاستخباراتية قبل أن تتحوّل إلى مكاسب سياسية.
بكلمات أخرى، فإن ساحة المعركة لم تعد ميدانًا لتثبيت الانتصار "الإسرائيلي"، بل لتقويض أهدافه عبر كمائن ذكية، وتكتيكات استنزاف تُعيد إنتاج المقاومة لا كطرف محاصر، بل كطرف يتحكّم بزمام الوقت والإرادة.
"نتنياهو باقٍ لأن الحرب باقية"
يبدو من مواقف الحزب الجمهوري الأميركي – كما عبّر عنها أدولفو فرانكو – أن بقاء حكومة نتنياهو بات مشروطًا ببقاء الحرب. فكلما استمرت المقاومة في مهاجمة القوات "الإسرائيلية"، كلما حصل نتنياهو على شرعية تمديد الحرب بوصفها "معركة الوجود".
هنا يصبح استمرار المعركة هدفًا بحد ذاته: ليس لإنهاء حماس، بل لحماية حكومة نتنياهو من المحاسبة، ولحماية صورة "إسرائيل" في واشنطن من السقوط السياسي، ولإعطاء ترامب ملفًا خارجيًا يُبرز "حزمه" أمام خصومه الديمقراطيين.
نهاية اللعبة: فشل المشروع لا يعني نهاية الخطر
ما يجري اليوم في غزة ليس مجرد فشل عسكري، بل فشل لمشروع استراتيجي صهيوني أميركي أراد تحويل الإبادة الجماعية إلى نصر سياسي. لكن التاريخ لا يتغيّر بالمجازر، بل بالصمود. والمقاومة، اليوم، تُدرك أنها تخوض معركة وجود لا مجرد معركة جغرافيا. كما تُدرك أن كل "تهديد عسكري حقيقي" ليس إلا محاولة لإخفاء مأزق لا حل له إلا بالتراجع.
لكن هذا لا يعني أن الخطر قد زال. فحين تفشل الإمبراطوريات، فإنها تصبح أكثر عنفًا، وأكثر تعطشًا للدم، وأكثر استعدادًا لتدمير ما تبقّى من القيم الإنسانية باسم "الأمن".
التاريخ لا يُعيد نفسه… لكنه يسخر من الذين لم يقرأوه
غزة اليوم ليست وحدها، لأنها تُقاتل باسم كل الشعوب التي قاومت الاستعمار. لكن "إسرائيل" أيضًا ليست وحدها، لأنها تمثل ذروة التوحّش الإمبراطوري في عصرٍ بات فيه كل شيء قابلاً للبيع: حتى الإنسانية.
التهديد بـ"الضغط العسكري الحقيقي" ليس سوى اعتراف أخير بأن "إسرائيل"، برغم جبروتها، لم تعد تملك إلا لغة الحرب… تلك اللغة التي فشلت في كل مكان واجهت فيه شعوبًا لا تؤمن إلا بالحرية.
الكاتب: غرفة التحرير