مرة أخرى، يجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة تأثير التغيرات السياسية الجذرية في الدول المضيفة، كما حدث سابقاً في محطات مختلفة من الشتات الفلسطيني. إلا أن ما يُميّز الحالة السورية هو أن أوضاع الفلسطينيين فيها، منذ نكبة سنة 1948 وحتى اندلاع الصراع سنة 2011، اتَّسمت بدرجة من الاستقرار النسبي مقارنةً ببلدان اللجوء الأخرى. ومع ذلك، فقد تعرّض الفلسطينيون في سورية لأشكال من التهميش القانوني والتضييق الإداري، تفاقمت خلال سنوات الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالحقوق المدنية والقانونية.
يُشكّل سقوط نظام الأسد في 8/12/2024 نقطة تحوّل كبرى في التاريخ السوري الحديث، فتحت الباب أمام مرحلة سياسية جديدة بقيادة قوى المعارضة السابقة، وسط حالة من الهشاشة الأمنية والانهيار المؤسسي. ضمن هذا السياق، يواجه اللاجئون الفلسطينيون في سورية تحديات كبيرة، تتراوح بين إعادة الإعمار، وملف المعتقلين، وعودة النازحين، وموقعهم القانوني والسياسي في الدولة الجديدة. فعلى الرغم من تمتّعهم سابقاً بحقوق مدنية كاملة، عدا الجنسية والحقوق السياسية، بفضل المرسوم 260 لسنة 1956، إلا أن سنوات الحرب أضعفت هذا الموقع.
وتُعدّ إعادة إعمار المخيمات، خصوصاً اليرموك، من أبرز التحديات، إلى جانب ملف المختفين قسراً، الذي ما زال يفتقر للتنسيق المؤسسي الفعّال. كما أن مستقبل الفلسطينيين يتأثر بتحولات السياسة السورية الإقليمية، لا سيّما في ظلّ الضغوط الأمريكية لإنهاء وجود الفصائل الفلسطينية. وتبقى خيارات الدولة الجديدة بين الاستجابة الكاملة للضغوط، أو حظر العمل المسلح فقط، أو الإبقاء على الوضع السابق، وكل منها يحمل تداعيات سياسية داخلية وخارجية مختلفة. يقدم هذا المقال من إصدار مركز الزيتونة للدراسات، ثلاث سيناريوهات محتملة للتعامل السوري مع ملف الفلسطينيين في سوريا
السيناريوهات المحتملة:
يمكن تصوّر ثلاثة سيناريوهات محتملة للتعامل السوري مع هذا الملف:
1. تنفيذ الشرط الأمريكي بالكامل: إنهاء الوجود العسكري والسياسي للفصائل الفلسطينية:
يُعدُّ هذا السيناريو الأكثر تطرفاً، ويقوم على الاستجابة الكاملة للمطلب الأمريكي، من خلال منع الفصائل الفلسطينية من ممارسة أي نشاط عسكري أو سياسي في سورية. وبالرغم مما قد يحققه هذا الخيار من مكاسب ديبلوماسية مؤقتة، فإن تداعياته الداخلية قد تكون عميقة. فقد اعتاد المجتمع الفلسطيني في سورية على وجود مؤسسات تمثيلية سياسية، حتى وإن كانت تنتمي للفصائل التقليدية، ولذا فإن إغلاق المجال العام من شأنه أن يدفع بالحراك السياسي إلى العمل السري أو غير المنظم. كما أن هذا السيناريو يحمل مخاطر قانونية ومدنية؛ إذ من شأنه أن يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة السورية واللاجئين الفلسطينيين من علاقة ذات طابع مدني – سياسي يحكمها القانون 260 لسنة 1956، إلى علاقة ذات طابع أمني صرف. وهذا الأمر قد يُهدِّد مكتسبات قانونية راكمها الفلسطينيون في سورية على مدى سبعة عقود، ويزيد من هشاشة وجودهم القانوني والاجتماعي.
2. حظر النشاط العسكري والإبقاء على العمل السياسي المنضبط:
يفترض هذا السيناريو أن تُقدِم الإدارة السورية على منع العمل العسكري للفصائل الفلسطينية، في ضوء تعقيدات المشهد الأمني المحلي والإقليمي، واستمرار الغارات الإسرائيلية، التي غالباً ستتذرَّع بوجود تلك الفصائل. وفي الوقت ذاته، يُبقي هذا السيناريو الباب مفتوحاً أمام العمل السياسي ضمن أُطر قانونية محددة وإدارة منضبطة بواقع سورية الجديد.
يمثّل هذا الخيار مخرجاً وسطاً بين الالتزام بالشرط الأمريكي وتجنُّب الانفجار الداخلي ضمن المجتمع الفلسطيني، كما يمنح الإدارة السورية هامشاً أوسع للمناورة الإقليمية، دون أن تتخلّى عن رمزية "الاحتضان السياسي" للقضية الفلسطينية. وينسجم هذا السيناريو مع تاريخ العلاقة الفلسطينية – السورية، ويُعدّ الخيار الأرجح من حيث الواقعية السياسية وقابلية التنفيذ.
3. تجاهل الشرط الأمريكي، والإبقاء على الوجود السياسي والعسكري للفصائل الفلسطينية:
ينطلق هذا السيناريو من فرضية تمسُّك الإدارة السورية الجديدة بالاحتفاظ بدورٍ داعم للفصائل الفلسطينية، كما يمكن أن يُبنى على قاعدة التجاهل العملي للشرط الأمريكي بناء على وجود عشرات الأولويات الأخرى. ويمكن أن يحتجّ النظام بحساسية هذا الملف، ووجود دعم شعبي واسع للمقاومة، وبإمكانية الاكتفاء عملياً بالتصرف ضدّ بعض الفصائل التي دعمت النظام السابق، ولكن دون إعلانٍ رسميٍ. وبالرغم مما يعكسه هذا الموقف من تمسّك بخيارات "الممانعة التقليدية"، فإنه قد يكون مكلِّفاً سياسياً وأمنياً. فمن جهة، سيعزِّز هذا التوجه من ذرائع "إسرائيل" لمواصلة الاعتداءات على الأراضي السورية، وربما لتبنّي خطاب أكثر تصعيداً في المحافل الدولية. ومن جهة أخرى، قد يُعيق هذا السيناريو محاولات التموضع الإقليمي الجديد لسورية، ويُضعف فرصها في إعادة بناء علاقات متوازنة مع القوى الفاعلة إقليمياً ودولياً. غير أن مواصلة الاحتلال الإسرائيلي لسياسات الهيمنة والعجرفة والاستفزاز، التي تتسبب بتعبئة الأجواء الشعبية الداخلية ضدّها، قد تجعل النظام ينظر للمقاومة كورقة قوة، بغضِّ النظر عن إمكانية استخدامها، ويتريّث في الاستجابة للشرط الأمريكي. وبالنظر إلى الظروف الداخلية المعقدة، والحاجة الملحة لرفع العقوبات، فإن هذا السيناريو يبدو غير مرجَّحٍ في المرحلة الراهنة، وإن كان لا يمكن استبعاده تماماً على المدى المتوسط إذا ما تغيَّرت المعطيات الجيوسياسية.
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
الكاتب: د. طارق أحمد حمّود