بهدوءٍ حذر، يعود الحديث عن "خيار الحرب البرية" في اليمن إلى الواجهة. ليس عبر إعلان رسمي ولا في تصريحات مباشرة، بل عبر تسريبات متعمّدة، ومواقف متناقضة، وتحركات عسكرية أميركية يصعب تجاهل دلالاتها. التصريحات الأخيرة للمسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية، ميك ميلوري، حول "دراسة التعاون مع الحكومة اليمنية لاستعادة الحديدة"، لم تكن مجرد قراءة افتراضية، بل مؤشراً على أن سيناريو الانزلاق البري عاد إلى طاولة النقاش داخل غرف القرار الأميركي.
غير أن السؤال الجوهري لا يدور حول إمكانية تنفيذ هذا الخيار، بل حول من يدفع باتجاهه، ولماذا في هذا التوقيت تحديداً، وسط معطيات إقليمية ودولية تشي بأن الأطراف المنخرطة في المشهد اليمني، من الولايات المتحدة إلى الامارات، ليست في موقع مريح لتوسيع رقعة النار.
منذ الهجمات اليمنية المتصاعدة بعد 7 أكتوبر 2023، وتحديداً عقب تصاعد الردود البحرية والجوية الأميركية، أورثت إدارة بايدن الادارة الحالية مأزقاً استراتيجياً غير معلن: لا هي قادرة على الانسحاب من المشهد، ولا هي مستعدة للاستنزاف طويل الأمد. حملة القصف ضد اليمن التي تقودها واشنطن باتت محطّ تساؤلات متزايدة من داخل المؤسسة الدفاعية نفسها، كما أظهرت مقالة كيلي بوكار فلاهوس في ذا أمريكان كونسيرفاتيف في 16 نيسان/ابريل 2025، والتي أبرزت القلق المتصاعد داخل البنتاغون من استنزاف الذخائر عالية الكلفة في مواجهة جماعة مسلّحة أثبتت قدرتها على الصمود.
وبحسب نيويورك تايمز، أقرّ مسؤولون في البنتاغون بأن العمليات العسكرية الحالية لم تنجح سوى بشكل محدود في إضعاف ترسانة صنعاء، في حين حذّر مسؤولو القيادة العسكرية من سرعة استهلاك الذخائر، ما يعكس مأزقاً في قدرة واشنطن على مواصلة الضغط دون كلفة استراتيجية على أولوياتها في المحيطين الهندي والهادئ.
وإذا كانت هذه المعطيات تعبّر عن شيء، فهو أن أي تورّط بري سيشكّل خطوة معاكسة للتيار الاستراتيجي داخل الإدارة الأميركية، التي تحاول منذ فترة إعادة توجيه مواردها نحو مواجهة الصين، وليس الغرق أكثر في صراعات الشرق الأوسط.
في المقلب الآخر، لا تُخفي أبو ظبي اهتمامها بإعادة تثبيت نفوذها في اليمن، وخصوصاً عبر القوى المحلية التي دعمتها منذ سنوات. فبينما تتراجع الرياض عن أدوارها المباشرة وتُظهر حذراً بالغاً من الانخراط البري، تبدو الإمارات، وفق مصادر ميدانية، أكثر قابلية لدفع الأمور نحو معركة ميدانية، لا سيما في مناطق الساحل الغربي، حيث تتداخل الجغرافيا العسكرية مع الطموحات الاقتصادية والأمنية.
الرهان الإماراتي، وإن لم يُعلَن صراحة، يقوم على استثمار الغطاء الأميركي في إعادة تموضع ميليشياتها المحلية، ومحاولة فرض وقائع ميدانية في موانئ استراتيجية مثل المخا أو الحديدة. إلا أن هذه الحسابات تصطدم بمحدودية الدعم الأميركي لعمليات بريّة غير محسومة النتائج، وبالممانعة الإقليمية لأي مغامرة قد تعيد فتح جبهات معقدة في لحظة إقليمية شديدة الحساسية.
أما السعودية، التي لطالما كانت رأس الحربة في الحرب اليمنية، فتُدير حالياً توازناً حذراً بين التهدئة والتأهب. النفي الرسمي السعودي لتقارير تحدثت عن مناقشات مع واشنطن حول عمل بري، يعكس رغبة واضحة في تجنب التورط من جديد، خاصة بعد الانفتاح النسبي مع صنعاء، ومحاولة تخفيض الكلفة السياسية والإنسانية للحرب على الداخل السعودي.
فالتوقيت لا يخدم الرؤية السعودية الجديدة، التي تحاول تأمين مناخ استثماري مستقر وهدوء إقليمي يسمح بتنفيذ خطط "رؤية 2030". وعليه، لا تبدو الرياض اليوم مستعدة لمجاراة أي اندفاعة إماراتية منفردة أو أميركية مقلقة، خصوصاً إذا جاءت خارج سياق تفاهمات أمنية شاملة.
رغم التصريحات المتضاربة والتحليلات الرائجة، تبدو واشنطن حتى الآن غير متحمّسة لخوض حرب برية في اليمن. ليس فقط لأن الجدوى العملياتية محدودة، بل لأن حسابات التورط أعمق من مجرد استعادة مدينة أو كبح جماعة مسلحة. فالساحة اليمنية اليوم ليست معركة جيوش تقليدية، بل بيئة حرب مرنة، تعيد ابتلاع كل قوة تحاول فرض معادلات من خارجها.
من ناحية الكلفة السياسية، سيكون الدخول البري مقامرة غير مضمونة النتائج في ظل الانتقادات المتزايدة داخل الكونغرس، وتحفظات الشارع الأميركي، الذي يزداد قلقاً من تكرار سيناريوهات الاستنزاف غير المحسوبة، كما حدث في أفغانستان والعراق. في حين لا يمكن اغفال احتمالية تقديم دعم لعملية عسكرية برية محدودة تحاول واشنطن خلالها فرض واقع ملائم لتمرير "صفقة" ما في المنطقة.
الكاتب: غرفة التحرير