في عالم تحكمه المصالح الإمبريالية والهيمنة الإعلامية، لا يُمكن فهم الصراع في غزة إلا من خلال تفكيك البنية الاستعمارية التي أنتجته، والديناميات التي تغذيه وتعيد إنتاجه باستمرار. ما نشهده اليوم من مفاوضات متعثرة ومحاولات لوقف إطلاق النار ليس إلا فصلًا جديدًا في المسرحية التي تجيد "إسرائيل" إخراجها: الحديث عن السلام بينما ترسّخ الاستعمار، والمناورة بورقة الأسرى بينما تواصل حرب الإبادة، ورفع شعار "استعادة الرهائن" بينما ترفض وقف الحرب الذي يمكن أن ينقذهم.
أولاً: السياق الحقيقي للمفاوضات
تُطرح المفاوضات الجارية الآن كأنها محاولة "إنسانية" للإفراج عن الأسرى ووقف إطلاق النار، لكن القراءة التحليلية تكشف أنها جزء من مشروع أعمق. فـ"إسرائيل" لم تأتِ إلى طاولة التفاوض مدفوعة بتبدّل استراتيجي، بل محكومة بعوامل ضغط داخلي غير مسبوق: تصدّع المؤسسة الأمنية، انقسام المجتمع، وتزايد الضغوط من عائلات الجنود الأسرى، بما في ذلك جنرالات سابقون في الجيش نفسه.
هذا الوضع الداخلي جعل نتنياهو يطرح شرطًا جديدًا يُفجّر أي تسوية: نزع سلاح غزة. وهو شرط ليس فقط غير قابل للتفاوض، بل يُخالف جوهر القضية الوطنية الفلسطينية، ويصطدم بإجماع شعبي وفصائلي.
ثانيًا: خطاب "إعادة الأسرى" كأداة سياسية
يُمارس نتنياهو لعبة مزدوجة: يتحدث عن سعيه لتحرير الأسرى، لكنه يضع شروطًا يعلم مسبقًا أن حماس سترفضها، مما يتيح له إلقاء اللوم عليها داخليًا، ويستمر بالحرب دون مساءلة. في الوقت ذاته، تُتهم حكومته، من داخل المؤسسة الصهيونية نفسها، بأنها تعرقل أي صفقة محتملة، كما أشار قادة المعارضة مثل يائير لبيد ويائير غولان، اللذين وصفا استمرار الحرب بأنه "تضحية بحياة الأسرى من أجل البقاء السياسي".
الإعلام "الإسرائيلي" نفسه بدأ يكشف تناقضات الخطاب الحكومي، بينما تستمر عائلات الجنود، والأطباء العسكريون، والجنود الاحتياطيون، في التوقيع على عرائض تطالب بوقف الحرب. وفي مشهد نادر، نرى حالة تمرّد داخل الجيش نفسه، أجبرت قيادته على اتخاذ إجراءات قمعية بحق المتظاهرين من داخله، بل وإعادة توزيع الجنود لتجنّب تعاظم التمرد.
ثالثًا: لماذا يصرّ نتنياهو على مواصلة الحرب؟
نتنياهو، كما يصفه بعض خصومه، ليس في حرب ضد حماس فحسب، بل في حرب ضد الزمن. أي نهاية سريعة للحرب ستعني فتح باب المحاسبة، داخليًا ودوليًا، على مجازر الحرب وخسائر الجيش وفشل الاستخبارات في 7 أكتوبر. لذلك، فإن استمرار القتال – ولو دون استراتيجية واضحة – هو بمثابة حماية ذاتية لرئيس وزراء بات وجوده مرهونًا باستمرار الدم.
من ناحية أخرى، فإن الحرب أصبحت فرصة لإعادة رسم خارطة غزة جغرافيًا وسياسيًا، تحت مسمى "مرحلة ما بعد حماس". وشرط نزع السلاح هو المفتاح لهذه المرحلة، التي تستهدف تحويل غزة إلى كانتون منزوع القوة ومراقب دوليًا، ما يشبه "سلطة بلا سلطة"، كما وصفها سابقًا الراحل إدوارد سعيد.
رابعًا: حماس وتكتيك الرفض الإيجابي
في المقابل، تُمارس حماس تكتيكًا محسوبًا. فهي ترفض العروض "الجزئية"، لكنها لا ترفض التفاوض بالمطلق. تصر على صفقة متكاملة تنهي الحرب وتحقق إنجازًا سياسيًا يُثبت أن المقاومة لا تُهزم. ومن هنا، فإن التمسك بسلاح المقاومة لا يُفهم فقط كعقيدة أيديولوجية، بل كأداة قوة في الميدان والسياسة.
ففي ظل ميزان قوة عسكري غير متكافئ، يتحول سلاح المقاومة – أو حتى التهديد به – إلى ورقة مساومة مركزية، تمامًا كما كانت "فيت كونغ" في فيتنام، أو جيش التحرير الجزائري، وغيرهم من حركات التحرر التي استخدمت أدواتها المحدودة لفرض شروط تفاوضية كبرى.
خامسًا: سيناريوهات محتملة
السيناريو الأول: انفجار داخلي إسرائيلي
استمرار العرائض والاحتجاجات داخل الجيش يمكن أن يُحدث شللاً مؤسساتيًا، ويفرض على الحكومة إعادة حساباتها. خاصة إذا تحول الغضب المدني والعسكري إلى عصيان منظم، كما جرى في أيام الاحتجاجات ضد إصلاحات القضاء.
السيناريو الثاني: "صفقة ناقصة" بوساطة قاهرة
قد تضغط مصر لتمرير صفقة جزئية تشمل تبادلًا محدودًا، لكن دون وقف دائم للحرب. هذا السيناريو قد يُرضي بعض الأطراف مرحليًا، لكنه سيفشل استراتيجيًا لأن جذور المشكلة – استمرار الاحتلال والإبادة – لم تُمسّ.
السيناريو الثالث: تحوّل المشهد إلى مواجهة إقليمية
في حال فشل المفاوضات وتصاعد المجازر، قد تتدخل أطراف من محور المقاومة (لبنان، اليمن، العراق) بشكل أوسع، مما يضع "إسرائيل" أمام حرب متعددة الجبهات لا يمكنها السيطرة عليها.
سادسًا: الدور الغائب – المجتمع الدولي والإعلام
ما يثير القلق أكثر من مواقف "إسرائيل" هو تواطؤ المجتمع الدولي، الذي لا يزال يعتبر المقاومة الفلسطينية "عقبة" في طريق السلام، بينما يغض الطرف عن جرائم الإبادة الجماعية التي تُرتكب يوميًا. بل تُواصل بعض الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، دعم الاحتلال بالسلاح والغطاء السياسي، كما فعلت مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سابقًا.
أما الإعلام الغربي، فهو يُعيد إنتاج الرواية الصهيونية نفسها: اختزال القضية في "رهائن"، وتجاهل أن غزة كلها محتجزة ومحرومة من أبسط حقوق الإنسان. هذه الهيمنة الإعلامية هي جزء من المعركة، وهو ما قلنا عنه سابقًا في وصف الإعلام بأنه "صناعة الموافقة" التي تُقنّن الظلم.
ما بعد الرفض؟
حماس ترفض الصفقة الجزئية، والمعارضة الصهيونية تتهم نتنياهو بتخريب المفاوضات، والشعب الفلسطيني يُذبح يوميًا. السؤال إذًا ليس: هل هناك حل؟ بل: من الذي يريد أصلًا حلاً؟
"إسرائيل" لا تفاوض من أجل السلام، بل من أجل الاستسلام. وكل مبادرة لا تُنهي الاحتلال وتفك الحصار وتعيد الحقوق، ليست سوى استراحة لآلة الحرب.
وفي قلب هذا المشهد، يبرز خيار المقاومة – لا كحالة عسكرية فقط – بل كفعل أخلاقي، وإصرار على الحياة الكريمة في مواجهة مشروع استعماري عنيف، لا يفهم إلا منطق القوة.
الكاتب: محمد الأيوبي
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com