منذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، تشهد العلاقات الأمريكية-الروسية توترًا كبيرًا إلى درجة ازدياد الحديث حول قطع العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، خصوصًا بعد سحب موسكو لسفيرها في واشنطن "أناتولي أنطونوف". وتشير تصريحات الرئيس الأمريكي الأخيرة أنه لم يعد مهتمًا لتحسين العلاقات مع روسيا وهو ما يشير إلى احتمالية تزايد العداء بين البلدين.
وتزيد من هذه الاحتمالية النشاطات التي تقوم بها روسيا في منطقة الشرق الأوسط، بدءًا من الانتشار عسكري في سوريا وصولًا إلى مساعيها في الدخول إلى العمق اللبناني اقتصاديًا عبر مشاريع يحاول الوفد الروسي الذي يزور لبنان مؤخرًا الوصول إلى اتفاق من أجل تنفيذها، ما تعتبره واشنطن تحديًا وتهديدًا لنفوذها في المنطقة.
في هذا الإطار يستعرض مركز دراسات غرب آسيا النظرة الأولية للاستراتيجية الروسية في مواجهة إدارة بايدن في منطقة غرب آسيا، حيث تسعى موسكو إلى تطوير شراكات استراتيجية بعيداً عن المحاور والاستقطابات، ومن دون خلط الأوراق ببعضها.
تمهيد
في حديثه في مؤتمر ميونيخ الأمني الافتراضي لعام 2021 في 19 شباط، قال الرئيس بايدن إنه يجب على الولايات المتحدة وأوروبا الوقوف ومواجهة التهديد من روسيا "الكرملين يهاجم ديمقراطياتنا ويستخدم الفساد كسلاح لمحاولة تقويض نظام الحكم لدينا. يريد القادة الروس أن يعتقد الناس أن نظامنا أكثر فسادًا أو فاسدًا مثل نظامهم. لكن العالم يعرف أن هذا ليس صحيحًا، بما في ذلك الروس - مواطني روسيا أنفسهم".
وأضاف الرئيس بايدن "لهذا السبب يظل الدفاع عن سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها مصدر قلق حيوي لأوروبا والولايات المتحدة. لهذا السبب، أصبح التعامل مع التهور الروسي واختراق شبكات الكمبيوتر، في الولايات المتحدة وعبر أوروبا والعالم، أمرًا بالغ الأهمية لحماية أمننا الجماعي".
واعتبر الرئيس بايدن "إن هذه ليست قضية تأليب الشرق بالغرب، ولا تتعلق بالرغبة في خلق صراع. نريد مستقبلاً تكون فيه جميع الدول قادرة على تحديد طريقها بحرية دون تهديد بالعنف أو الإكراه. لا يمكننا ولا يجب أن نعود إلى المعارضة [الانعكاسية] والكتل الجامدة للحرب الباردة. يجب ألا تمنع المنافسة التعاون في القضايا التي تؤثر علينا جميعًا".
تمثل عودة الديموقراطيين للحكم في الولايات المتحدة الأمريكية جملة من المخاطر والتحديات التي قد تواجهها روسيا وخططها الاستراتيجية في المجالين الأوراسي والمتوسطي. سيما وأنها ستصطدم في مسارها بالأمريكي وحركته الحثيثة في أكثر من اتجاه وخصوصاً منطقة غرب آسيا.
فخلال عهد الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب تحاشى الطرفان الصدام واجترحوا في أكثر من مناسبة وأزمة أطراً ووسائل للتفاهم وهذا ما سمح لموسكو بالتحرك بحرية وبحذر في أكثر من منطقة والتوسع التدريجي خصوصاً في منطقة غرب آسيا مع مراعاة المصالح الأمريكية الأساسية وعدم الاصطدام بها مهما كانت قوة الحضور والنفوذ الروسي في هذا البلد أو ذاك ومهما كان في المقابل الحضور والنفوذ الامريكي ضعيفاً.
مجيء إدارة بايدن وتوجهاتها العالمية الواضحة والصراعية ضد روسيا والصين وقيام الإدارة الامريكية الجديدة بإعادة تعويم أوروبا وإحياء الناتو أعاد العلاقات الروسية الغربية إلى حقبتها المعقدة والمأزومة لما قد يستتبع ذلك من جهود أوروبية أمريكية للضغط على روسيا بهدف محاصرتها وعزلها.
في المقابل تعاطت القيادة الروسية ببرودة لافتة مع الادارة الأمريكية الجديدة وبدا واضحاً أن هذا البرود بدأ يتحول مع الوقت ووضوح التوجهات الأمريكية إلى ما يشبه التجاهل وإن اضطر الجانبان للاتفاق والتنسيق في ملفات قد ترفع منسوب التوتر بينهما أكثر ومن ذلك ما حصل من ترتيبات أو تفاهمات أولية تمنع الاشتباك المباشر ولا تنهي الخلاف المتعدد الأوجه في ملفات سوريا وفلسطين وليبيا.
وقد عادت الماكينة الروسية للحراك في الأسبوعين الماضيين على وقع استعصاء الحل الأمريكي عالمياً في معظم القضايا:
- المستوى الذي يجب أن تبلغه السياسة الأمريكية بمواجهة روسيا في قضايا الجوار الروسي كأوكرانيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي الاوروبية السابقة.
- توجس الإدارة الأمريكية من فتح الباب على مصراعيه لمواجهة النفوذ الصيني في العالم.
- الانعطافة الهندية الجديدة باتجاه روسيا والتي أعادت تمتين العلاقات الروسية الهندية إقليمياً وعالمياً.
- ملف الاتفاقية النووية مع إيران وتراجع احتمالات العودة إلى الاتفاق نتيجة لصمود ولامبالاة إيران بشروط السقف العالي الامريكية.
- الوقف السريع للحرب اليمنية نتيجة لعدم احتواء الخطوة الامريكية لما يرضي الأطراف المتصارعة.
- أزمة الحل السياسي والوجود الأمريكي في العراق.
- المأزق الأمريكي في سوريا والخطر الذي قد تتسبب به تداعيات قانون قيصر.
- الانهيار السريع في لبنان وعدم قدرة الأمريكيين على فرض منطقهم إلا بتعزيز الفوضى فيه.
- مستقبل العلاقات الامريكية الاسرائيلية في ظل ممانعة حكومة نتنياهو لمعظم الحلول التي تطرحها واشنطن لحل قضية الاتفاقية النووية مع إيران.
- مستقبل العلاقات الأمريكية التركية في ظل انعدام فرص الاتفاق الكامل واضطرار الطرفين إلى ربط النزاع وتقسيمه.
- مستقبل العلاقات الامريكية السعودية.
- التباطؤ بتطبيع الحل في الملف الليبي يعود إلى أن التفاهم الذي جرى الوصول إليه برعاية أممية لا زال هشاً مع بقاء نفوذ وتأثير التدخلات الاقليمية على حاله.
- عدم حسم الجدل في موضوع خط نورد ستريم 2 بسبب اعتراض ألمانيا على التوجه الأمريكي الذي يقضي بوقفه في ظل عدم وجود بديل.
- عدم وجود حل واضح للخلاف الامريكي الفنزويلي.
- تجدد أزمة تجارة النفط وتدفقه عالمياً.
- الدور الأمريكي الثانوي في التنازع الدولي والاختلاف الشديد حول كيفية الوقاية من جائحة كورونا.
- قضايا اشتباك عديدة.
وقبل عرض المشهد العام للسياسة الروسية في منطقة غرب آسيا لا بد من التنويه إلى أن ما لا تشهره أو تعلنه روسيا حول سياستها في مواجهة أمريكا يمكن تفسيره على المدى البعيد عند تحليل الدور الروسي في المنطقة، ومن خلال علاقات روسيا وتفاعلاتها مع دول المنطقة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وفي هذا الشأن تطول اللائحة بين أنماط العلاقات المختلفة، إلا أنه وفي المجمل يمكن تفسير العلاقات السياسية الروسية بأنها مناوئة في معظم مخرجاتها للتوجهات الأمريكية في توجه روسي بالسعي لإنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب.
دوافع الدور والنفوذ الروسي في منطقة عرب آسيا
يتمثل الدافع الرئيسي للدور الروسي الجديد في المنطقة في أربعة أهداف أساسية:
1- تحقيق مكاسب داخلية على مستوى الاقتصاد والاستقرار الداخلي الروسي.
2- دعم ومساندة الحلفاء في المنطقة.
3- البحث عن حلفاء جدد.
4- تشكيل خريطة من العلاقات التي تخدم المصالح الروسية داخل المنطقة في المقام الأول.
ويندرج من الأبعاد الأربعة السابقة العديد من السياسات الروسية التي من شأنها تحقيق هذه الأهداف وأهم تلك السياسات هي:
1- تعزيز وحماية النفوذ الروسي القوي في المنطقة.
2- المنافسة في سوقي النفط والغاز والاستحواذ على أكبر قدر ممكن من التسهيلات في مجال استخراج الطاقة.
3- تحقيق موقع متميز، إن لم يكن احتكاراً، في سوق الأسلحة الإقليمي.
4- إعادة رسم الخريطة الإقليمية والدولية وخلق تحالفات إقليمية ودولية وتطوير الروابط بينها وفق المتغيرات المستجدة على الساحة.
5- تعتبر منطقة غرب آسيا من المناطق الجيوستراتيجية الهامة من حيث توزيع المقدرات النفطية والثروات الطبيعية، ووفق ذلك تدرك روسيا بأن هذه المنطقة تمثل مفتاح السيطرة على العديد من مجريات الملفات الإقليمية والدولية.
6- السياسة المتعلقة بتوريد الأسلحة لتأمين حلفاؤها وضمان استمرارية ولائهم، وتأتي التوجهات الروسية في هذا الإطار على خلفية حساسية المنطقة تجاه الصراعات التي قد تغير موازين القوى في المنطقة في لحظات.
7- حاولت روسيا استدعاء القوى الدولية المتوافقة معها سياسيًا وعسكريًا، والعمل على زحزحة العديد من القوى الغربية المناوئة للوجود الروسي في المنطقة، بما يضمن لموسكو نصيب الأسد فيما يتعلق بالملفات الموجودة على الساحة وما يستجد منها.
8- المساهمة في الحد من النزاعات في المنطقة لتيسير الظروف للعمل ومد النفوذ الروسي بسلاسة لتحقيق الهدف الرئيسي من سياسة التمدد وهو جذب أكبر عدد ممكن من الدول من مجال النفوذ الأميركي إلى مجال النفوذ الروسي.
9- إنهاك الولايات المتحدة سياسيًا وعسكريًا بنحو غير مباشر عن طريق مزاحمتها في العديد من الملفات المثارة في المنطقة.
نتيجة لقائمة طويلة من المشاكل بين موسكو وواشنطن ومن خلفها أوروبا والناتو تحركت الديبلوماسية الروسية بكامل طاقتها في منطقة " الشرق الأوسط " لإعادة ترتيب وتنظيم معظم الملفات التي تهم موسكو فيما يشبه إعادة رسم لخارطة الحراك الروسي في المنطقة وتولى الرئيس الروسي ووزير خارجيته ومبعوثي الرئيس المكلفين في عدد من القضايا والمناطق عملية الترتيبات ووسعت روسيا مروحة حركتها في المنطقة. فوزير الخارجية سيرغي لافروف يجري بشكل دوري جولات في دول الخليج. وقبلها كانت اللقاءات الروسية-السورية متواصلة. وغني عن القول إن روسيا حاضرة بقوة في سوريا. والتواصل الروسي-الإسرائيلي لا ينقطع. وكذلك العلاقة الروسية-الإيرانية. وخلال الأسابيع الماضية أطلقت روسيا حملة ديبلوماسية هي الأكثف منذ سنوات وصفتها الصحافة الروسية بأنها "كسرت الارقام القياسية للأنشطة الديبلوماسية لسبع بلدان من الأنشط عالمياً" حيث أجرى المسؤولون الروس لقاءات واتصالات وجولات (مع الخليجيين-الإسرائيليين-المصريين-الليبيين-الأتراك-الإيرانيين-اللبنانيين-السوريين-دول المغرب العربي) بهدف اعادة رسم الاستراتيجية الجديدة ورسم خريطة الطريق الروسية القديمة المتجددة في المنطقة.
روسيا والملفات الأساسية في منطقة غرب آسيا
بناءً على ما تقدم نعرض إليكم الملفات الأساسية التي تهم موسكو أو ترتبط بها بشكل أو بآخر في المنطقة ونعرضها لكم بشكل مكثف ومختصر على الشكل التالي:
أولاً: الملف النووي الإيراني
يعتقد الدبلوماسيون الروس أن هناك فرصة الآن لواشنطن وطهران للعودة إلى التنفيذ الكامل لخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، المعروفة باسم "الاتفاق النووي"، مبادرة موسكو وثيقة الصلة بالموضوع. تذكر أنه في عام 2018، انسحبت الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة وأعادت العقوبات ضد إيران، رداً على ذلك، خفضت طهران التزاماتها بموجب "الاتفاق النووي". رحبت موسكو بقرار إدارة جو بايدن باستعدادها لاستئناف الحوار مع إيران والعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. وقال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في آخر تصريح له قبل يومين، "صحيح، لم يتم تنفيذ قرار العودة للاتفاق بعد، لأنه في الولايات المتحدة نفسها، كما أفهمها، هناك تعقيدات عملية لفهم كيفية القيام بذلك"، مشيرًا بذلك إلى المناقشة الجارية في واشنطن ودول المنطقة، حول تعديل خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) وتقديم الشروط المسبقة لإيران (تخفيض برنامجها الصاروخي ووضع حد للتدخل في شؤون المنطقة). وفقًا لسيرجي لافروف، ترى موسكو أنه من الممكن وضع خطوات متزامنة تتخذها الولايات المتحدة وإيران للعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. وعبر عن استعداد روسيا لمساعدة كلا الطرفين في هذا".
إلا أنه أضاف شيئاً جديداً يرتبط بالملحق الذي تريده واشنطن وحلفائها على الاتفاقية النووية قائلاً " نحن مقتنعون بأنه إذا تم إنشاء المؤتمر المقترح حول الأمن في منطقة الخليج على أساس مبادئ احترام ومصالح الأطراف المشاركة، والمساواة وضرورة التحرك نحو حلول وسط مقبولة للطرفين، وشدد رئيس وزارة الخارجية الروسية على أنه في مثل هذا المؤتمر يمكن مناقشة أي مشاكل وأي مخاوف.
ثانياً: التطبيع الخليجي-الإسرائيلي
أيدت موسكو عملية تطبيع العلاقات بين الدول العربية والدولة اليهودية، والتي بدأت العام الماضي بمساعدة أمريكية، لكنها تؤكد أن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب تسوية فلسطينية إسرائيلية
ثالثاً: الآثار السلبية لقانون قيصر
تخشى موسكو تداعيات السياسة الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط. وهي متضررة كبعض دول الخليج، المملكة العربية السعودية خصوصاً. وتعمل على توسيع حركتها، محاولةً تعزيز موقفها حيال واشنطن.
وتعلم موسكو أن نفوذها قوي في سوريا. لكنها تواجه أزمة حقيقية في إعادة تعويم النظام وإنتاجه. فما لم تخسره الدولة السورية في الحرب، يمكن أن يخسره في الاقتصاد.
ومن الواضح أن أشرس المعارك التي تخوضها موسكو، لتجميع أكبر كم من المواقف والقوى إلى جانبها، هي لمجابهة قانون قيصر الأميركي. فأي دولة أو شركة تحاول الدخول والعمل في مشروع على الأراضي السورية، تتعرض للعقوبات.
وهاجس روسيا الاقتصادي في سوريا، لديها مثله في لبنان أيضاً. هي تحاول ترتيب مفاوضات غير مباشرة بين النظام السوري وإسرائيل – تارة بمفاوضات حول الجولان، أو لضبط الوضع الأمني والعسكري، وطوراً لتبادل أسرى أو بحثاً عن جثة إيلي كوهين – كمدخل روسي وسوري لاستعادة بعض العلاقات أو الدور. ولكن الانهيار الاقتصادي والمالي السوري هو ما يهدد المشروع الروسي. وهذا قابل لأن ينعكس ويتكرر في لبنان أيضاً.
رابعاً: اهتمام متجدد بلبنان
حسب المعلومات، يشكل الوضع اللبناني أولوية روسية في هذه المرحلة. فاللقاءات التي عقدها مسؤولون روس مع مسؤولين لبنانيين، عبّر الروس فيها عن خشيتهم من تطورات أمنية أو عسكرية على الساحة اللبنانية، بفعل الانهيار المالي والاقتصادي. وهو انهيار قابل لأن ينعكس سلباً على الوضع السوري، والعكس صحيح أيضاً. فموسكو تعلم أن لبنان هو حديقة سوريا الخلفية، مهما تغيرت الظروف والأحوال. وما يجري فيه ينعكس على سوريا والعكس صحيح.
وتحرص روسيا على علاقة ممتازة مع كل القوى اللبنانية. وكان مدخلها إلى لبنان واضحاً: اللاجئون السوريون، وعقد مؤتمر في سوريا يشارك فيه لبنان للبحث في عودتهم. وهي كانت تحضِّر لعقد مؤتمر على الأراضي اللبنانية يناقش إعادة اللاجئين، ولكنه أُجِّل لأسباب كثيرة، أهمها دولية: عدم توفر التوافق الدولي على عودة اللاجئين، في ظل عدم الاتفاق على الحل السياسي في سوريا.
وحالياً، توسع موسكو علاقاتها بالقوى اللبنانية. وهي تحاول أن تكون فاعلة في معضلات لبنان الداخلية، عبر مساندتها المبادرة الفرنسية، وتكاملها معها على خطّ تشكيل الحكومة، للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار في لبنان.
وهذا ما تبحثه روسيا مع رئيس الجمهورية وممثلين عنه، ومع الرئيس سعد الحريري، بينما تواصلها مستمر مع الرئيس نبيه برّي ووليد جنبلاط. ويوم الإثنين الماضي توجه وفد من حزب الله إلى موسكو. وحسب المعلومات، بدأ التحضير لهذا اللقاء قبل حوالي الشهر. وتحديداً لدى زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى موسكو. فخلال تلك الزيارة أثير الملف اللبناني مع ظريف، فنصح الروس بالتواصل مع حزب الله.
ومنذ ذلك الحين نشطت اتصالات روسية مع القوى اللبنانية المختلفة، للدفع في إزالة العقبات أمام تشكيل الحكومة. وروسيا تؤيد سعد الحريري منذ اليوم الأول لتكليفه. ولكن على أساس حفاظه على علاقته بحزب الله، وعدم دخوله في مواجهة معه، قد تؤدي إلى توتير الأجواء السياسية. فموسكو تريد الاستقرار في لبنان لأهداف ترتبط بأهمية هذا الاستقرار على المصالح الروسية في لبنان وسوريا.
وللتحرك الروسي قراءتان مختلفتان، ولكنهما تلتقيان في نقطة أساسية: لا تمتلك روسيا قدرة على إحداث تغيير في المعضلة اللبنانية، بلا توافقها مع الأميركيين والسعوديين. وكان ذلك مقتل المبادرة الفرنسية. وروسيا لا تريد تكرار الفشل الفرنسي.
أما تباين القراءتين فيتجلى في أن جهات تراهن على تنمية العلاقات الروسية – الخليجية، وانعكاسها على لبنان لصالح خصوم حزب الله بشكل أو بآخر. سواء أتعلق الأمر بأمن إسرائيل، أو بمحاولات إعادة النظام السوري إلى الحضن العربي بعيداً عن إيران. وهذه النظرة ترى تضارباً بين المصالح الإيرانية والروسية في لبنان كما في سوريا. وهذا مرتبط بملف أساسي تُستحضر روسيا إليه دوماً: ترسيم الحدود اللبنانية-السورية، وضبط المعابر التي يستخدمها حزب الله، ويرى أصحاب هذه النظرة أنها تستنزف سوريا ولبنان.
أما النظرة الثانية فتعود إلى الطرف الذي يراهن على استمرار التفاهم الاستراتيجي بين روسيا وإيران والنظام السوري. وهي نظرة ترى أن هذه العلاقة لا يمكن لها أن تصاب بتعارض كبير، مهما بلغت الخلافات.
لكن الأرجح أن الحركة الروسية لن تؤدي إلى تحقيق تقدم على خطّ الأزمة اللبنانية، المالية والاقتصادية والسياسية. فمثل هذه الأزمات تعني روسيا، لكنها لا تقوى على حلها. ولذا هي مرشحة للاستمرار. وآفاق تشكيل الحكومة مسدودة، وكذلك الحصول على مساعدات.
الانهيار فصوله مستمرة، إذاً. وسيكون لبنان مرتبطاً أكثر بالإيقاع السوري في المرحلة المقبلة.
خامساً: مسار العلاقات الروسية التركية (ولادة مسار قطر الموازي لمسار آستانة)
عقد وزراء خارجية كل من قطر وتركيا وروسيا، يوم الخميس 11-3-2021، اجتماعا في الدوحة لبحث الأزمة السورية وسبل التعاون بهدف الإسهام في حل سياسي دائم.
وفي نهاية الاجتماع صدر بيان مشترك على النحو التالي:
- أكد الوزراء التزامهم بالحفاظ على سيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها وفق ميثاق الأمم المتحدة.
- عبروا عن قناعتهم بعدم وجود حل عسكري للصراع السوري ، وأكدوا التزامهم بدفع عملية سياسية تيسرها الأمم المتحدة لدعم الأطراف السورية للتوصل إلى حل سياسي وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 وبيان جنيف. من 2012.
- أكدوا عزمهم على مكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره والوقوف ضد الأجندات الانفصالية التي تقوض سيادة سوريا وسلامتها الإقليمية وتهدد الأمن القومي لدول الجوار.
- التأكيد على الدور المهم للجنة الدستورية وضمان احترام الأطراف السورية لاختصاصاتها وقواعد إجراءاتها الأساسية. وأعربوا عن دعمهم للمشاركة البناءة دون تدخل أجنبي في عمل اللجنة الدستورية.
- جددوا موقفهم من المساهمة في عمل اللجنة الدستورية من خلال دعم جهود المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن، من خلال التفاعل المستمر مع الأطراف السورية ومندوبي اللجنة الدستورية في سوريا. من أجل ضمان عملها المستدام والفعال لتحقيق الإصلاح الدستوري.
- عبروا عن قلقهم البالغ إزاء الوضع الإنساني في سوريا وتأثير جائحة كوفيد -19 والتحدي العميق الذي يشكله على النظام الصحي في سوريا وعلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية. وفي هذا الصدد، دعا الأمم المتحدة ووكالاتها، ولا سيما منظمة الصحة العالمية، بما في ذلك من خلال مبادرة كوفاكس، إلى إعطاء الأولوية للتلقيح داخل سوريا.
- التأكيد على ضرورة زيادة المساعدات الإنسانية لجميع السوريين في جميع أنحاء البلاد دون تمييز وتسييس وشروط مسبقة من أجل دعم تحسين الوضع الإنساني في سوريا وإحراز تقدم في عملية التسوية السياسية ، ودعا المجتمع الدولي والأمم المتحدة و وكالاتها الإنسانية لتعزيز جهودها في هذا الصدد.
- شدد على ضرورة تسهيل العودة الآمنة والطوعية للاجئين والمشردين داخليا. وفي هذا الصدد، أعربوا عن استعدادهم لمواصلة التفاعل مع جميع الأطراف ذات الصلة، بما في ذلك مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وغيرها من الوكالات الدولية المتخصصة.
- التأكيد على أهمية التعاون ودعم مبادرات بناء الثقة بين الأطراف السورية فيما يتعلق بالإفراج عن المعتقلين وخاصة النساء والأطفال وكبار السن مما سيسهم في دفع العملية السياسية من خلال خلق أجواء إيجابية بين الأطراف السورية على أساس ثقه متبادلة.
أعرب وزيرا خارجية تركيا وروسيا الاتحادية عن امتنانهما لدولة قطر على استضافة اجتماعهما التشاوري الأول بشأن سوريا في الدوحة. وقرر الوزراء تكليف مبعوثي الدول الثلاث بمواصلة جهودهم لتحقيق الأهداف المشتركة المشار إليها في هذا البيان.
نحو ستين يوماً من الاتصالات والنقاشات بين أنقرة وموسكو أفضت إلى التوافق على إنتاج مسار جديد، حمل ابتداء من الخميس 11 آذار 2021 اسم مسار الدوحة، على اعتبار أن الإعلان عنه كان من العاصمة القطرية، عقب الاجتماع الذي ضم وزراء خارجية الدول الثلاث، بينما غابت إيران في الشكل على أن تبقى حاضرة على صعيد المضمون والتفاصيل مؤكداً.
الاسم الرسمي للنسق هو "اجتماعات استشارية حول القضايا السورية". لكن من المحتمل جدا أن تحمل اسم "الدوحة" قياسا على "أستانا" التي تشارك فيها روسيا وتركيا وإيران.
وفقًا لسيرجي لافروف، فإن الاجتماعات التشاورية ليست بديلاً عن أستانا، بل إضافة لها فقط.
وأوضح الوزير أنه منذ عام، يناقش الخبراء القطريون والأتراك والروس القضايا السورية وسيواصلون هذه الممارسة. كما سيجتمع وزراء الخارجية بشكل دوري. ومن المقرر عقد الاجتماع القادم في تركيا ثم في روسيا.
وكما أشار الوزير الروسي، فإن "صيغة أستانا" مخصصة لجميع جوانب التسوية، لكن "لا يسع المرء إلا أن يرحب برغبة قطر في مساعدة دولة شقيقة". وركزت تصريحات الوزير القطري على المساعدات الإنسانية لسوريا التي يحتاجها، حسب قوله، ملايين السوريين. حتى الآن، ساعدتهم الدوحة في مخيمات اللاجئين في شمال سوريا، بالقرب من الحدود التركية، وكذلك في الأردن. السؤال الكبير هو ما إذا كانت الدوحة ستوسع مساعداتها إلى الأراضي التي يسيطر عليها الرئيس السوري بشار الأسد.
وقال مولود جاويش أوغلو إنه تم خلال المحادثات مناقشة موضوع مهم لأنقرة وهو الوضع في سوريا في سياق أنشطة تنظيم الدولة الإسلامية (المحظور في روسيا الاتحادية) وحزب العمال الكردستاني الذي يعتبر إرهابيا. في تركيا. تعهد السيد جاويش أوغلو بأن تركيا ستستمر في محاربة الإرهابيين. لكنه لم يطور الموضوع أكثر.
كما أعلن الوزراء الثلاثة دعمهم لعمل اللجنة الدستورية، وبشكل عام، جهود الأمم المتحدة لتحفيز التسوية السياسية في سوريا.
ومن دواعي سرور موسكو أن الطرفين اتفقا على دعم العودة الطوعية للاجئين والمشردين داخليا إلى ديارهم.
لكن سيرجي لافروف كان الوحيد الذي أشار خلال المؤتمر الصحفي إلى أضرار العقوبات الغربية على الاقتصاد والوضع الإنساني في سوريا. وترى أنقرة والدوحة في هذه القضية أن السلطات في دمشق بحاجة إلى مواصلة الضغط. ولكن احتراما لنظيرتهم الروسية، فإن بقية أعضاء الترويكا لم يقولوا ذلك بصوت عال.
من الواضح أن روسيا وتركيا أرادتا إبعاد إيران عن المسار الجديد على أن يكون ذلك مقابل قصر الحضور الخليجي فيه على قطر، ورغم الزيارتين اللتين أجراهما سيرغي لافروف إلى كل من السعودية والإمارات، إلا أن التحاق هاتين الدولتين بشكل رسمي به لم يكن مطروحاً، لكن من الواضح أيضاً أن الأفكار التي كانت بجعبة وزير الخارجية الروسي كانت مقبولة من الرياض وأبو ظبي، حيث عبر المسؤولون في الدولتين عن تأييد مبدئي لعودة سوريا إلى الجامعة العربية مقابل الابتعاد عن إيران.
هذه العودة السورية (المشروطة) إلى جامعة الدول العربية تعتبر في غاية الأهمية بالنسبة لروسيا التي تدرك أن إعادة إنتاج النظام السوري سياسياً ودولياً إنما يبدأ من بوابة الجامعة العربية.
فجهود روسيا على هذا الصعيد، والتي تصطدم حتى الآن بموقف أميركي وأوروبي صلب يرفض أي تطبيع مع النظام قبل التوصل إلى حل سياسي على أساس القرارات الدولية، سيشكل قبول الدول العربية بإعادة العلاقات مع النظام فرصة استثنائية لكسر هذا التصلب، والتوجه إلى الغرب بأنهم لا يمكن أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك، وسيرفع الإحراج عن كاهل الدول الأخرى الراغبة بتجديد الصلات مع دمشق.
لكن موسكو التي تدرك صعوبة تحقيق اختراقه في هذ الجدار، على الرغم من عدم مبالاة السعودية، وحماس أبو ظبي، وفي ظل موقف تركي قطري رافض لمناقشة هذه العودة في الظروف الحالية، عبر عنه بوضوح وزير خارجية قطر في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع نظيره الروسي، ومع الإصرار الأميركي الأوروبي على التمسك بهذا الموقف، تدرك موسكو أيضاً أن عليها تقديم تنازلات أكثر أهمية من أجل تحقيق تقدم في العملية السياسية تسمح بخلق أفق لتدفق أموال المساعدات وإعادة الإعمار إلى سوريا.
المعلومات المتوفرة حتى الآن تفيد بعرض روسيا الموافقة على دخول المساعدات الإنسانية إلى مناطق سيطرة المعارضة مع التنازل عن شرط مرورها من خلال المعابر التي تخضع للنظام، مقابل تعهد دول الخليج بالمساهمة بشكل أكبر في برامج الأمم المتحدة للمساعدات المخصصة للمناطق التي يسيطر عليها النظام، وهو أمر لا يمكن أن يشكل نقطة خلاف بطبيعة الحال.
كما عرضت روسيا وللمرة الأولى، حسب المصادر، أن يتم البحث في قضية المعتقلين كبادرة لبناء الثقة بين المعارضة والنظام، ووعدت بأنها ستضغط على الحكومة السورية بشكل حقيقي من أجل فتح هذا الملف الذي يصر النظام وبقوة على إبقائه مغلقاً.
أما العرض السياسي والتنازل الجوهري الذي طرحته موسكو، فهو إمكانية تأجيل الانتخابات الرئاسية القادمة التي ينوي النظام إجراءها، مقابل الحفاظ على مسار اللجنة الدستورية حياً، وكذلك البدء بمناقشة تشكيل هيئة حكم انتقالي دون اشتراط عدم مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد فيها، وقد طلبت روسيا من قطر وتركيا طرحه على المعارضة الرسمية والشخصيات البارزة فيها من خارج الائتلاف وهيئة التفاوض لجس النبض حوله، وهذا ما يفسر غالباً سبب لقاء وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مع رياض حجاب.
على أية حال، نحن أمام حراك ديبلوماسي غير مسبوق فيما يتعلق بالملف السوري، وهو حراك أول خطواته تبدأ من ملفات إنسانية لا خلاف حولها، على أمل أن تشكل أرضية قبل الانتقال لمناقشة ملفات حساسة تعتبر العقبات الحقيقية أمام فتح الطريق إلى الحل الشامل، وأهم هذه العقبات مستقبل الرئيس بشار الأسد والوجود الإيراني في سوريا، وبالطبع لم تكن روسيا لتقبل بالحديث حول هذه النقاط لولا الضغط الاقتصادي الكبير الذي تعاني منه ويجعلها عاجزة عن تقديم مساعدات تسعف الدولة السورية التي تعيش أوضاعاً صعبة على هذا الصعيد.
سادساً: النزاع النفطي والسياسي مع واشنطن في شرق المتوسط
تشكل سوريا ساحة للتنافس بين روسيا والولايات المتحدة للسيطرة على حقول النفط والغاز، وطرق نقل مصادر الطاقة للمستهلكين. وتسعى روسيا لتوسيع نفوذها في مجال الطاقة في سوريا، لا سيما في المناطق الخاضعة للمتمردين المدعومين عسكريًا من الولايات المتحدة في شمال شرق سوريا ولبنان المجاور، وذلك عبر ساحل سوريا على البحر المتوسط، وقد قامت الحكومة السورية بتوقيع عقود استكشاف وإنتاج مع شركتي طاقة روسيتين في 3 مربعات في مناطق مختلفة من سوريا، يضمن تحقيق الأهداف الروسية. تتضمن عقود استكشاف النفط والغاز حقل غاز شمال دمشق، وحقول نفط في غرب دير الزور، وبالقرب من بلدة الرصافة المنتجة للنفط في شمال شرق البلاد.
وأشارت تقارير إلى فوز شركات طاقة روسية بعقود لاستكشاف مواد هيدروكربونية في 3 مربعات قبالة ساحل سوريا على البحر المتوسط، فيما أجرت سفينة روسية عملية رسم خرائط جيوفيزيائية في أرجاء المياه الإقليمية اللبنانية والسورية لاستكشاف الغاز.
أن وجود شركتي غاز روسيتين تربطهما علاقة مباشرة بالكرملين في المربعات البحرية السورية واللبنانية، يشير إلى انخراط روسي طويل الأمد في شؤون الطاقة الجيوسياسية في شرق المتوسط.
لذلك ليس هناك شك أن العقوبات المفروضة على سوريا بموجب «قانون قيصر»، والتي دخلت حيز التنفيذ في حزيران 2020، هي أداة أمريكية لمنع الشركات الروسية من تنفيذ أعمال تجارية في القطاعين النفطي والعسكري في سوريا، وإعادة تأهيل البنية التحتية للطاقة في هذا البلد.
يعزز وجود شركة "ديلتا كريسنت إنيرجي" الأمريكية الصغيرة في شمال شرق سوريا، من مصالح الطاقة الأمريكية في المنطقة، ويدعم التحالف الأمريكي مع قوات سوريا الديمقراطية المعروفة اختصارًا بـ "قسد".
لقد تراجعت المعارك العسكرية لتبدأ المعارك الاقتصادية، ورغم التباعد الجغرافي فإن الملفين السوري والليبي مرتبطان، من وجهة النظر الروسية، وذلك من عدة زوايا. أولها، أن الوجود العسكري الروسي في سوريا يحتاج إلى حاضنة آمنة في البحر المتوسط تعزز السيطرة والحضور الروسي فيه، وتعد ليبيا نقطة ارتكاز مثالية في هذا الصدد خاصة أن اتفاق نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 بشأن الاستخدام المتبادل للمجال الجوي والبنية التحتية الخاصة بالمطارات بين مصر وروسيا لمكافحة الإرهاب لا يحقق الأهداف الروسية بالكامل والتي تتجاوز الأهداف الأمنية والاستراتيجية المباشرة إلى تلك المتعلقة بأسواق الطاقة.
إن روسيا قد لا تريد الهيمنة على النفط الليبي، فهي ثاني أكبر مصدر للنفط والسابع للغاز، وتقوم سياسة الطاقة الروسية على الشراكة وليس فرض السيطرة، أي أن تكون روسيا شريكاً في أي مشروعات لنقل الطاقة إلى أوروبا على النحو الذي يضمن ألا تكون هذه الإمدادات منافسة ومؤثرة على حصة روسيا الحالية والمستقبلية في السوق الأوروبية، التي تعتبر أكبر وأهم الأسواق لتصريف الطاقة الروسية، وتأمل موسكو في زيادة حصتها فيها مع افتتاح «السيل الشمالي 2» (نورد ستريم 2) لشمال أوروبا والسيل التركي لجنوبها. يزيد من أهمية ذلك الصعوبات التي تواجه سوق النفط حيث يتوجب على روسيا بموجب اتفاق «أوبك+» خفض إنتاجها حتى يوليو الحالي بمقدار 2.5 مليون برميل يوميا، وهو أمر موجع اقتصاديا لها خاصة مع التدهور في أسعار النفط. في هذا السياق فإن روسيا مهتمة بالهلال النفطي في ليبيا وأن يكون تحت سيطرة قوة صديقة، والحيلولة دون استنزاف تركيا للنفط الليبي والإضرار بالأسعار والأسواق كما فعلت بالنفط السوري من قبل، مع الأخذ في الاعتبار ضخامة الثروات النفطية الليبية مقارنة بنظيرتها السورية وكون ليبيا عضواً مؤثراً في منظمة أوبك والأقرب من الأسواق الأوروبية.
سابعاً: الأهمية المتعاظمة لليبيا في صراع النفوذ في المتوسط
لقد تقدمت ليبيا كثيراً في أولويات روسيا الشرق أوسطية ولكن التعامل الروسي معها ما زال حذراً نظراً لتعقد خريطة القوى الداخلية والإقليمية والدولية فيها، والرغبة في عدم الإضرار بالعلاقة مع إيطاليا التي تمثل شريكاً أوروبياً مهماً لروسيا، وحليفاً أساسياً لحكومة السراج. وتتركز الحركة الروسية في دعم المشير حفتر، عسكرياً وسياسياً، باعتباره القوة التي تحارب الإرهاب على الأرض، وتضمن تأمين استمرار السيطرة على الهلال النفطي. ويعتبر تشكيل جبهة دولية إقليمية داعمة للمشير حفتر في المحافل الدولية وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي تضم إلى جانب روسيا، فرنسا ومصر والإمارات وغيرها من القوى المعنية بالملف الليبي، حجر زاوية في السياسة الروسية لموازنة الضغوطات التي تمارسها تركيا ومن ورائها واشنطن. كما أن من الملاحظ طرح الملفين الليبي والسوري معاً في أي تفاهمات روسية تركية حتى تنتبه الأخيرة لمصالح روسيا وكونها حاضرة بقوة في ليبيا.
في ضوء هذه المعطيات، أصبح الحضور الروسي في ليبيا أقوى وأوضح من ذي قبل. ربما لن ترسل موسكو قوات نظامية أو تقوم بضربات جوية مباشرة كما فعلت في سوريا، لأنها تدرك أن الجيش الوطني الليبي قادر على إدارة المعارك مع بعض الدعم الضروري سياسياً وعسكرياً وهو ما تقوم به روسيا بشكل مباشر أو عبر قنوات غير مباشرة، في سيناريو يختلف في آلياته عن سوريا ولكنه يقترب من الأهداف نفسها من حيث الحفاظ على وحدة ليبيا والقضاء التام على الإرهاب فيها والاحتفاظ بنفوذ قوي لموسكو قد يصل لقواعد عسكرية ضامنة لمصالح الطرفين.
الزاوية الأخرى في ترابط الملفين السوري والليبي أن نقل الإرهابيين من سوريا إلى ليبيا لا ينهي التهديد الذي تمثله هذه العناصر على أمن روسيا والمنطقة من وجهة النظر الروسية ولكن يعيد تموضعه، كما أنه يجعل المكتسبات التي تحققت في سوريا مهددة بانتكاسة، وقد حذرت القيادة الروسية في أكثر من مناسبة من الخطر الذي يمثله نقل أعداد متزايدة من الإرهابيين من سوريا إلى ليبيا، ودعت إلى التعاون الدولي للقضاء التام على الإرهاب.
وأخيراً، إن كسر شوكة تركيا في ليبيا يساعد في توجيه الضربة القاضية لها في سوريا والتخلص نهائياً من معضلة إدلب، «الجرح المتقيح»، على حد تعبير وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، فرغم التفاهمات الروسية التركية فإن التحركات التركية ما زالت تمثل تهديداً للمصالح والأمن الروسي في أكثر من موضع، فهي تفاهمات تكتيكية لتجنب صدامات كبرى مباشرة بين الطرفين وليست توافقات استراتيجية بينهما.
ثامناً: موسكو وفكرة مؤتمر تبحث "مفهوم الأمن الجماعي الروسي المحدث لمنطقة الخليج "
منذ حوالي 18 شهرًا، كشفت موسكو النقاب عن مفهوم الأمن الجماعي الروسي المحدث لمنطقة الخليج. ويتوخى آلية جماعية للرد على التحديات والتهديدات بمشاركة دول المنطقة، بما في ذلك إيران وجميع الدول العربية.
"نحث باستمرار على الامتناع عن خطاب المواجهة ، والتصدي على طاولة المفاوضات لجميع القضايا التي تراكمت و [ندعو] جميع دول المنطقة دون الإقليمية للانخراط في بناء نظام للأمن الجماعي والاستجابة المشتركة للتحديات والتهديدات القائمة وقالت الوزارة ".
تلقت المبادرات الأمنية الإقليمية لروسيا ردود فعل إيجابية في الإمارات العربية المتحدة. وقال كبير الدبلوماسيين الإماراتيين إن بلاده ترحب بجهود موسكو في هذا المجال.
تواكبت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الأسبوع الماضي التي استغرقت أربعة أيام إلى الخليج، مع أجواء يكافح قادة خليجيون إما للسيطرة على إعادة تقويم جو بايدن لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة أو الإشارة إلى رفضهم التكيف مع نهج الرئيس.
وأتت زيارة لافروف إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر بعد أسبوع من إصدار الولايات المتحدة لتقرير استخباراتي أشار بأصابع الاتهام إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بزعم أنه أمر بقتل الصحفي جمال خاشقجي في 2018.
في وقت سابق، أوقفت الولايات المتحدة بيع أسلحة للمملكة يمكن نشرها في هجومها المدمر المستمر منذ ست سنوات في اليمن.
من المؤكد أن السيد لافروف يريد الاستفادة من صخب وهواجس المواقف الخليجية من سياسات بايدن وسط تصورات بأن إعادة تقويم العلاقات مع المملكة العربية السعودية تشير إلى أن الولايات المتحدة تقلل من أهمية الشرق الأوسط في استراتيجيتها العالمية، مما يقلل من أمنه. الالتزامات، وربما النظر في الانسحاب.
ليس هناك شك في أن الولايات المتحدة تريد إعادة هيكلة التزاماتها من خلال زيادة تقاسم الأعباء والتعاون الإقليمي، ولكن من غير المرجح أن تتخلى عن الشرق الأوسط تمامًا.
السؤال هو ما إذا كانت توجهات بايدن تشكل مجرد إشارة إلى نوايا الولايات المتحدة أو محاولة متعمدة للسماح للحلفاء والشركاء الذين يواجهون مشاكل في عدم اليقين في محاولة لزيادة نفوذ الإدارة.
من المحتمل أن تكون الاستراتيجية طويلة المدى نتيجة غير مقصودة ولكنها مفيدة لقناعة الإدارة بأن معالجة حالات الطوارئ المحلية مثل الوباء والأزمة الاقتصادية وكذلك إصلاح العلاقات مع حلفاء أمريكا التقليديين في أوروبا وآسيا شرط مسبق لاستعادة نفوذ الولايات المتحدة. والنفوذ الذي أضر به الرئيس السابق دونالد ترامب.
إذا كان الأمر كذلك، فقد يقوم لافروف عن غير قصد بتقديم خدمة لإدارة بايدن من خلال محاولة استغلال الحلاف والغموض في العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها لدفع خطة روسية لإعادة هيكلة هيكلية أمنية.
تتصور هذه الخطة عقد مؤتمر أمني شرق أوسطي على غرار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) واتفاقية عدم اعتداء إقليمية تضمنها الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند.
من خلال القيام بذلك، سيمهد لافروف الطريق للنقاش حول مفهوم تمت مناقشته بأشكال مختلفة في نقاط مختلفة من قبل المسؤولين الأمريكيين، حيث تحتفظ الولايات المتحدة التي تقوم بترتيب منزلها بمصداقية بمكانتها المهيمنة العمود الفقري العسكري لهيكل أمني جديد.
لا يزال الوقت مبكرًا، ولكن حتى الآن، أصرت المملكة العربية السعودية على "أن الشراكة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية هي شراكة قوية ودائمة" على الرغم من أنها رفضت في نفس البيان تقرير المخابرات الأمريكية باسم " سلبي وكاذب وغير مقبول".
في الوقت الحالي، تبدو المملكة العربية السعودية مصممة على مواجهة الرياح القوية في البيت الأبيض وكذلك في الكونغرس بدلاً من الاندفاع إلى موسكو وبكين لإعادة تنظيم علاقاتها الجيوسياسية والأمنية.
حتى الآن لم تهتم المملكة بأي شيء آخر. وسواء فعلت ذلك خلال زيارة لافروف هذا الأسبوع، فإن ذلك سيكون بمثابة دليل على ما إذا كانت المملكة العربية السعودية ستتجه نحو روسيا والصين بطريقة مهمة.
تاسعاً: مستقبل الحضور والنفوذ الروسي في سوريا
يبدو من خلال النتائج العسكرية والسياسية أن التدخل الروسي في سوريا كان مغامرة مدروسة لتحقيق عدة أهداف، في مقدمتها استعادة دور روسيا كلاعب رئيسي على الساحة الدولية، وتأكيد تعافيها من الأزمات الاقتصادية والسياسية التي عصفت بها في سوريا.
كما سعت القيادة الروسية إلى إعادة التأكيد على رفض روسيا تغيير الأنظمة من خلال قوة احتجاجات الشوارع والمنظمات غير الحكومية لأنها استمرار للمشروع الغربي المعادي للنفوذ الروسي.
هذا بالإضافة إلى إعادة التأكيد على أن الانتخابات هي الآليات الوحيدة المقبولة لتداول السلطة. كما أن لروسيا رغبة في استعادة هيبتها في مواجهة المعسكر الغربي الذي انتزع منها العراق ثم ليبيا.
ومن هنا قدمت روسيا نفسها كشريك مخلص لحلفائها على عكس الولايات المتحدة التي تخلت عن الحلفاء حسب التحولات في مصالحها.
كما حققت روسيا مجموعة من الأهداف العسكرية، بما في ذلك قيادة وتسويق المعدات والتكنولوجيا العسكرية الروسية المتطورة وتسخير شركات الأمن الخاصة الروسية لتكون الذراع غير الرسمي للبلاد للتدخل في مناطق أخرى. تنوي روسيا ترسيخ سياستها ونفوذها في التفكير في نموذجها الروسي الجديد، الذي تدعي أنه يستحق المراقبة، خاصة بعد النجاحات التي حققتها في سوريا ولاحقاً في ليبيا.
لقد مضت روسيا قدما في تدخلها بطريقة تضمن تحقيق هذه الأهداف، مع مراعاة الدروس المستفادة من تدخلها في أفغانستان وعواقبه الكارثية.
على سبيل المثال، لم تتجاوز التكلفة السنوية للتدخل الروسي في سوريا 2 مليار دولار، وهي ميزانية صغيرة مقارنة بميزانية الدفاع الإجمالية. ووفقًا للإحصاءات الرسمية، لم يتجاوز عدد القتلى خلال ست سنوات 300 حالة وفاة.
لا يزال تأثير هذا الرقم محدودًا على الشارع الروسي مقارنة بالطموح المستمر لروسيا لاستعادة مكانتها كلاعب دولي رئيسي.
كما نجحت روسيا في تقديم نفسها كوسيط بين الأعداء الإقليميين والدوليين في القضية السورية، بما في ذلك إيران وإسرائيل وتركيا ودول الخليج ومصر والعراق والاتحاد الأوروبي. ساعد تدخلها في سوريا على لعب دور في ليبيا والسودان.
بعد تحقيق الانتصار العسكري المنشود، تعيش روسيا الآن حالة من عدم اليقين لأنه من الصعب الحفاظ على التوازن بين جميع الأطراف.
لدى النظام السوري ثقة أكبر في نفسه لأنه يعتقد أن الجيش السوري لعب الدور الأكبر في تحقيق النصر ولديه القدرة على العودة واستعادة السيطرة على كامل سوريا بدون روسيا. وبشكل أكثر دقة، اعتبر النظام أن روسيا تخوض المعركة في سوريا لتحقيق مصالحها وأعطاها النظام الشرعية لتحقيق ذلك. وبالتالي، يخوض النظام منافسات وجهاً لوجه مع الروس. في العديد من القضايا الخلافية وأهمها (محاولة روسيا المس بالنظام أو الجيش بشكل عام ) ظهر ذلك بوضوح في سلوك النظام السوري في التعامل مع ملف الهيئة الدستورية السورية. وقد مارس الوفد المدعوم من الحكومة المماطلة، مبدئيًا غفلة كاملة للرغبة الروسية في تحقيق تقدم في هذا الملف.
بعد انتهاء المرحلة العسكرية، وإن كان مؤقتًا، بشر الروس بتغيير نهج التعامل مع النظام السوري. تم تحديد هذا النهج بشكل أساسي من قبل وزارة الدفاع الروسية. وتعتبر الوزارة الحليف الأول للأسد الذي يروج لدوره أمام القيادة الروسية. في الوقت نفسه، لا يتمتع الأسد بنفس الجاذبية في الأروقة السياسية، وحتى قبل بوتين نفسه. ربما ما يفسر سبب عدم وضع روسيا للنظام السوري تحت ضغوط سياسية أكبر هو النظرية التي تشير إلى أن وضع الأسد تحت ضغط أكبر سيدفعه إلى الاعتماد كليًا على إيران ويقوض الدور الروسي.
لكن بعد التدهور الاقتصادي في إيران، شرع بوتين في تقليص دور وزارة الدفاع من أجل التمثيل السياسي من خلال تسمية مبعوثين سياسيين إلى سوريا. تسعى هذه الخطوة إلى تعزيز قدرة روسيا على فرض رؤيتها السياسية.
ويبدو أن بوتين قرر منح النظام السوري فرصة إضافية متمثلة في إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة في موعدها.
وغني عن القول إن الرئيس الأسد سيفوز في هذه الانتخابات والتي مهما كانت نزاهتها وشفافيتها لن تحصل على شرعية سياسية دولية.
لكن في الوقت نفسه، سيُطلب فرض إصلاحات اقتصادية واجتماعية وإدارية مثل مكافحة الفساد والعمل على إعادة المهاجرين إلى الوطن. ستبقى الشؤون السياسية والقانونية في طريق مسدود. على سبيل المثال، لن يكون هناك أي تقدم في ملف تغيير عقيدة الأجهزة الأمنية وإعادة توزيع مراكز القوة داخل النظام الأمني والعسكري، من أجل الضغط من أجل هذا التغيير، يأمل الروس أن تصل بعض المساعدات من الأمم المتحدة والأوروبية لترميم المدارس والمستشفيات وشبكات الطاقة على الرغم من أنهم يعرفون أن الولايات المتحدة تعارض هذا الاقتراح لأنه يعني الانتقال من مرحلة الأزمة إلى مرحلة ما بعد الأزمة.
يرفض المعسكر الغربي هذا الأمر ويعتبره اندماجاً مع الأمر الواقع والاعتراف بمرحلة ما بعد الأزمة. لكن الروس يأملون في أن يكون هناك تعاون أوروبي روسي لإعادة اللاجئين إلى الوطن مما سيفتح أبوابًا مالية.
وهناك مشكلة ثانية أيضاً طرفاها روسيا والغرب تتعلق بمطالب الانسحاب الروسي من سوريا حثي أن الروس يقولون في كل مناسبة تطرح فيها هذه الفكرة " إن قرار بوتين بالانسحاب من سوريا وإعلان النصر العسكري والسياسي مرهون بوجود حكومة صديقة في دمشق، تحافظ على وحدة الأراضي السورية، تفضل. أن تكون علمانية وتحترم الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية الموقعة بين البلدين".
ونظراً لغياب البديل الذي يراه الروس مناسباً للوفاء بهذه المتطلبات وانعدام الثقة بينهم وبين الأمريكيين، يصعب رؤية تعاون بينهم، الأمر الذي يؤدي إلى انتقال يضمن مصلحة الروس. ربما تكون إيران هي الضامن الوحيد لتحقيق هذا التطلع الروسي، لكن هذا يبدو بعيد المنال. لن توافق أي دولة من الدول المعنية بالملف السوري على جعل سوريا تحت سيطرة إيران بالكامل.
ولقد أثبتت موسكو كذلك أكثر من مرة في المجالس المغلقة وعبر التسريبات الاعلامية التي لم تتبناها أنها لا تتمسك بالرئيس السوري وفي حال تغير النظام في سوريا بشكل منظم، دون الانغماس في الفوضى وإحضار شخصية جديدة تتمتع بمصداقية أكبر من الرئيس الأسد - مقبول من الغرب ويفي بالمتطلبات الروسية - فلن تعرقل روسيا مثل هذا التغيير. في حين أنه من المؤكد أن روسيا لا تفضل المضي قدمًا في هذا التغيير، يبدو أنها لن تمنع تحقيقه، بشرط أن يكون مقبولًا من قبل الغرب وإيران.
الهدف الروسي من الوجود في سوريا أكبر وأعمق بكثير من الأزمة نفسها. بالنسبة لروسيا، يعتمد القرار بشكل أساسي على محادثاتها مع الولايات المتحدة والاعتراف الغربي بها، ودورها الدولي البناء. يجب أن يكون هذا بعيد المنال على المدى القصير. إن تواصل روسيا مع الكيانات المختلفة، بما في ذلك المعارضة السياسية والهيئات الإغاثية والمجتمع المدني السوري، يهدف فقط إلى تعزيز مكانتها داخل المجتمع الدولي أكثر من رغبتها أو قدرتها على حل الأزمة.
عاشراً: العلاقة الروسية التركية الهجينة
تعيش روسيا وتركيا في حالة حرب هجينة، على الرغم من أنه قد يبدو للوهلة الأولى أن البلدين أقاما علاقة ودية مؤخرًا.
فمن ناحية، فإن العلاقات السياسية والتجارية والاقتصادية القوية، والتعاون العسكري التقني والسياحة هي التي تربط موسكو وأنقرة.
ومن ناحية أخرى ورغم دورهما في محاولة إخراج الحلول للازمتن السورية والليبية، فهناك مواجهة سياسية بين البلدين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتلك الأزمات التي تتوازن على شفا صراعات عسكرية مباشرة، تعقد بشكل كبير العلاقات الثنائية بين روسيا وتركيا.
في الوقت الحاضر، من الصعب وصف نوع العلاقات بين الطرفين. لا سيما في المجالات التالية:
1- سعي أنقرة الطموح للتمدد في عدد من الاتجاهات في غرب آسيا وشمال أفريقيا لنقاط ولدت أو قد تولد اشتباكاً مع الروس.
2- التفاهم على القطعة بين موسكو وأنقرة في عمليات ممارسة النفوذ في الحوض الشرقي للمتوسط حيث تتفقان في بقع معينة وتختلفان في بقع أخرى وتشتبكان في بقع ثالثة.
3- عدم وضوح العلاقة بين أنقرة والناتو والدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في خطط الناتو ضد روسيا في منطقتي القرم وآذربايجان.
4- مستوى واتجاه العلاقة بين أنقرة وواشنطن وخصوصاً تلك التي ترتبط بالتعاون الذي تطلبه واشنطن من تركيا في مناطق نفوذ روسية والمؤشرات التي تؤكد أن أنقرة بدأت تتجاوب في بعضها.
5- إدارة مفاوضات الحل في أعقد نزاعين في المنطقة وهما النزاع السوري والنزاع الليبي.
يوم الأربعاء الماضي اعتبر الكرملين أن أنقرة شريكة استراتيجية في المنطقة وفي جميع القضايا الإقليمية تقريباً، وأعلن المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، تقدير بلاده لإبداء تركيا الإرادة السياسية لإيجاد حلول وسط لأصعب المشكلات. وقال بيسكوف في إجابة عن سؤال الصحافيين عن رؤية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للعلاقة الروسية التركية في الوقت الراهن، وما إذا كان من الممكن وصف تركيا بالحليف الرئيسي لروسيا: "بالطبع تركيا شريك مهم لروسيا، شريك استراتيجي"، حسبما ذكرت قناة "آر تي" الروسية الإخبارية. وأشار المتحدث باسم الكرملين إلى أن ثمة تفاعلاً وثيقاً بين روسيا وتركيا في جميع القضايا الإقليمية تقريباً، لا سيما فيما يتعلق بعمل مركز المراقبة الروسي - التركي في إقليم ناقورنو قرة باغ، الذي خاضت أرمينيا وأذربيجان قتالاً بشأنه العام الماضي. وأكد بيسكوف أن التفاعل بين موسكو وأنقرة بشأن سوريا "نشط للغاية"، مشيراً إلى أنه "رغم حدوث فترات عصيبة في سوريا، فقد تمكن الرئيسان (الروسي والتركي) دائماً من التوصل إلى حل وسط". وأضاف "نحن نقدر عالياً وجود إرادة سياسية لدى شركائنا في البحث عن حلول وسط حتى في الظروف الصعبة". وفي تعليقه على رفض أنقرة الاعتراف بشبه جزيرة القرم جزءاً من روسيا، قال بيسكوف إن "موسكو لا تقبل موقف تركيا إزاء هذه المسألة، لكنها لا تتوقف عن شرح موقفها للجانب التركي"، معرباً عن أمله في أن "يفهم زملاؤنا وشركاؤنا الأتراك - عاجلاً أم آجلاً - صحة موقف روسيا الاتحادية ومشروعيته". وكانت شبه جزيرة القرم الأوكرانية قد انضمت إلى روسيا في عام 2014، ولكن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يقولان إن موسكو ضمتها قسراً.
ملاحظات واستنتاجات:
تسعى موسكو إلى تطوير شراكات استراتيجية بعيداً عن المحاور والاستقطابات، ومن دون خلط الأوراق ببعضها.
أولاً، هناك شراكة استراتيجية بين روسيا وكل من إيران، والمملكة العربية السعودية، ومصر، وتركيا، والجزائر، والمغرب، وهي تؤكد على احترام الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحل الدولتين، مع الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع إسرائيل، ولا ترى موسكو في ذلك تعارضاً باعتبارها تنطلق من التوازن في علاقاتها بالأطراف المختلفة، وضرورة تسوية الخلافات الإقليمية ودعم التفاهمات والاستقرار الإقليمي.
ثانياً، أن ارتباط الأمن القومي الروسي بمفهومه الشامل وجناحيه الاقتصادي والأمني بالمنطقة أعطى الأخيرة ثقلاً استراتيجياً متزايداً في الأولويات الروسية، فموسكو ترى أن أمنها القومي يرتبط عضوياً بأمن واستقرار المنطقة، وأن القضاء على الإرهاب داخلها يبدأ من سوريا وليبيا والمنطقة بأسرها. كما أن ضمان أسعار مرضية للنفط الذي تمثل عوائده عصب الاقتصاد الروسي، يظل رهناً بصياغة تفاهمات مع المملكة العربية السعودية، باعتبار الدولتين أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم.
ثالثاً، أن حالة الارتباك في السياسة الأميركية تجاه المنطقة تتيح مساحة للتحرك الروسي بقوة في المنطقة، خصوصاً أنها مستمرة منذ بداية عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وأنها تزامنت مع ارتباك أشد في الدوائر الأوروبية نتيجة "بريكست" البريطاني والخلافات الأوروبية حول سياسات الهجرة واللاجئين وغيرها. الأمر الذي أوجد فراغاً نسبياً نتيجة انشغال القوى صاحبة النفوذ التقليدي في المنطقة، ما سمح لموسكو بالتقاط زمام المبادرة في عدد من ملفات المنطقة. ولا يعني هذا أن روسيا تسعى لمزاحمة الولايات المتحدة أو أي قوة أخرى، لكنها فقط تقتنص الفرص المتاحة لحماية وتحقيق مصالحها برؤية ووفق أجندة وطنية روسية، مع الأخذ في الاعتبار مصالح دول المنطقة.
رابعاً، ستظل سوريا هي محور الارتكاز الاستراتيجي الروسي في المنطقة، حيث القواعد الروسية الوحيدة خارج الفضاء السوفياتي، قاعدتا حميميم الجوية وطرطوس البحرية، وما تتيحه هاتان القاعدتان من وجود دائم وقوي لروسيا في البحر المتوسط ذي الأهمية الاستراتيجية لروسيا منذ العهد القيصري. ويعد الدور الروسي هو الأبرز في قيادة مسار التسوية السلمية في سوريا، بعد أن نجحت الضربات العسكرية الروسية في تغيير توازنات القوى على الأرض السورية، إلى جانب التوافقات التي تمت مع أنقرة وما مثلته من تغيير جوهري في معادلة القوى الخاصة بالقضية السورية.
المصدر: مركز دراسات غرب آسيا