لم يكن تبادل الأسرى بين حركة حماس وكيان الاحتلال مجرد صفقة عابرة، بل كان حدثاً مشحوناً بالدلالات السياسية، محكم الإخراج بصرياً ولغويّاً، مصمّماً ليحمل رسائل متعددة المستويات إلى كل من يراقب، سواء كان فلسطينياً، إسرائيلياً، أو حتى طرفاً دوليّاً يتابع تفاصيل المشهد.
في اللحظة التي سُلّمت فيها جثامين الإسرائيليين في توابيت مغطاة بالأعلام الإسرائيلية، كانت الرسالة واضحة وصارخة: "نتنياهو قتلهم"، وهو ما عبّرت عنه العبارات المكتوبة على التوابيت، في تحوير لما كان يردده الإسرائيليون أنفسهم عن مسؤولية رئيس حكومتهم عن حياة الأسرى. هذه الصورة لم تكن فقط جزءاً من المشهدية، بل كانت ضربة نفسية تستهدف الجمهور الإسرائيلي مباشرة، مفادها أن تعنت قيادته السياسية هو من أدى إلى هذه النتيجة، وأنه كان بإمكانهم استعادة أسرى أحياء لو قبل نتنياهو بشروط التبادل مبكراً.
لم تكن المنصة مجرد مسرح لتسليم الأسرى، بل كانت منصة رسائل مكتوبة ومرئية، كل تفصيل فيها محسوب بدقة. وجود السلاح في الخلفية لم يكن عرضاً عشوائيّاً، بل تأكيداً على أن هذا التبادل تم "بقوة السلاح"، وليس نتيجة وساطة حسن نوايا. وعلى العكس مما تسعى "إسرائيل" لتسويقه عن كونها تفرض شروطها بالقوة، كانت كل عملية تبادل تؤكد أن الاحتلال، رغم كل ما يملك من ترسانة عسكرية، وجد نفسه مضطراً للعودة إلى المقاومة والقبول بشروطها لاستعادة أسراه.
حماس لم تكتفِ بالمشهد البصري، بل استخدمت الكلمات كرصاص ناعم يصيب أهدافه بدقة. الشعارات التي كُتبت على المنصات، والتوابيت، واللافتات المحيطة، كلها كانت تحمل لغة محسوبة لإيصال رسائل معينة. حين كُتب على التوابيت: "نتنياهو قتلهم"، لم يكن هذا مجرد توصيف، بل إدانة علنية لسياسات الحكومة الإسرائيلية أمام جمهورها. وحين وُضعت صورة نتنياهو مع عبارة "لن تستعيدوهم إلا بشروطنا"، كان هذا تثبيتًا لرواية أن الاحتلال، رغم كل ضغوطه العسكرية، لم يتمكن من كسر إرادة المقاومة.
عند تتبع صفقات التبادل منذ بدء العدوان على غزة، نجد أن حماس كانت تصر على تضمين كل تبادل برمزية سياسية معينة. في الصفقة الأولى، كانت الرسالة أن المقاومة تحتفظ بزمام المبادرة، حيث أفرجت عن الأسرى وفق توقيتها الخاص وليس استجابة لأي ضغوط. في الصفقة الثانية، تم تسليم جثامين مقابل أسرى أحياء، في تأكيد على أن الاحتلال، الذي يدّعي أنه لا يترك جنوده، اضطر في النهاية للعودة للمقاومة ليحصل على قتلاه، بعد أن فشل في إنقاذهم. في الصفقة الثالثة، حرصت حماس على أن يكون هناك عنصر "الهدية" للأسرى المفرج عنهم، سواء كان ذلك كتاباً، مسبحة، أو حتى علم فلسطين، في إشارة إلى أن الأسرى الفلسطينيين لا يخرجون خاليي الوفاض، بل يعودون ومعهم رمزية الصمود والانتصار.
لم تدع حماس وسائل الإعلام الإسرائيلية تصوغ الرواية كما يحلو لها. فعبر تسجيلات مصورة، وتصريحات دقيقة، وعبر مشهدية التسليم، نجحت في فرض روايتها على الإعلام الإسرائيلي ذاته. ففي كل مرة كانت تُعرض فيها صور الأسرى الإسرائيليين أثناء التسليم، كانت هذه المشاهد مرفقة برسائل تفيد بأنهم يعودون بعد أن "حُفظت حياتهم رغم تقاعس حكومتهم". وفي المقابل، حين بثت مشاهد التوابيت، كان ذلك مقصودًا ليكون صدمة بصرية للإسرائيليين، تخبرهم أن سياسة "لا تفاوض" التي اتبعها نتنياهو أوصلتهم إلى هذه النتيجة.
ما حدث ليس مجرد تبادل أسرى، بل كان إعادة ترسيم لمعادلة القوة في الصراع. حماس لم تكن مجرد طرف يفاوض، بل كانت الطرف الذي وضع الشروط، وحدد السياق، وصاغ المشهد وفق رؤيته. وبينما تحاول "إسرائيل" دائمًا تقديم نفسها على أنها الطرف الأقوى الذي يفرض شروطه، جاءت هذه التبادلات لتؤكد أن القوة لم تعد في امتلاك السلاح فحسب، بل في القدرة على إدارة المعركة إعلامياً، ونفسياً، وسياسياً، وهو ما أتقنته حماس بامتياز.