الثلاثاء 18 شباط , 2025 01:00

اسقاط مشروع التهجير: بين صمود الغزيين ونجاح الخطة المصرية

عندما تضع الحرب أوزارها، تبدأ معركة أخرى، أكثر تعقيدًا وأشد خطراً، وتكون معركة إعادة الإعمار إحدى أوجهها. في غزة، لا يبدو أن هذه المعركة تدور فقط حول إعادة بناء ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية، بل هي ساحة اشتباك سياسي، تحولت بسرعة إلى كرة نار تتقاذفها الأطراف بعد تصريح الرئيس الأميركي عن مشروعه بتهجير الفلسطينيين وتفريغ قطاع غزة من سكانه. في مقدمة هذه الأطراف، تقف مصر، التي وجدت نفسها مجدداً في مقدمة "المُتسهدَفين"، في أجندة أميركية-إسرائيلية تدفع باتجاه حل جذري: التهجير.

منذ انتهاء العدوان الإسرائيلي الأخير، بدأت القاهرة بإرسال إشارات واضحة بأنها ستقود عملية إعادة الإعمار في غزة. عمليًا، يُتوقع أن تتضمن الخطة المصرية الخطوات التالية:

-إنشاء هيئة إشراف مركزية تتولى تنسيق المساعدات الدولية وتنفيذ المشاريع، على أن تكون تحت إشراف مصري مباشر.

-شراكة مع دول إقليمية ودول مانحة، خاصة من الخليج وأوروبا، لضمان تدفق الأموال، لكن بشروط تتعلق بمن سيشرف على تنفيذ المشاريع، ومن يحدد أولويات الإعمار.

-إعادة بناء البنية التحتية الأساسية مثل الطرق وشبكات الكهرباء والمياه، لكن وفق رؤية لا تضمن تعزيز أي استقلال اقتصادي حقيقي للقطاع، بل تبقيه مرتبطًا بالإدارة الخارجية، خاصة من الجانب المصري.

-إقامة مناطق صناعية ومشاريع اقتصادية كبرى في محاولة لخلق بدائل اقتصادية، لكن السؤال هنا حول ما اذا كان سيتم استخدامها كأداة للضغط السياسي على المقاومة، بحيث يصبح أي تصعيد عسكري ثمنه وقف هذه المشاريع؟

-فرض ترتيبات أمنية أكثر صرامة، من خلال تعزيز التنسيق الأمني المصري-الإسرائيلي فيما يتعلق بالحدود، وضمان عدم استغلال عملية الإعمار في تطوير قدرات المقاومة العسكرية، وفقًا لرؤية تل أبيب وواشنطن.

بالتزامن مع الطرح المصري، عاد الحديث مجددًا عن مشاريع التهجير التي تُناقش في الدوائر الإسرائيلية والأميركية. المخطط يقوم على فكرة استغلال الوضع الإنساني الكارثي في غزة لدفع السكان نحو الهجرة، عبر أدوات متعددة: مفاقمة الحصار وإبقاء القطاع في حالة شلل اقتصادي، بحيث تصبح الحياة مستحيلة وتدفع الشباب تحديدًا إلى البحث عن أي فرصة للخروج. تقديم عروض لفتح مسارات للهجرة عبر توفير ممرات آمنة أو إغراءات مالية لمن يرغبون في مغادرة القطاع، وهو ما يتم تداوله في تقارير استخباراتية إسرائيلية وغربية. والضغط على دول مجاورة لقبول أعداد محددة من اللاجئين، عبر حوافز اقتصادية ومساعدات، وهو ما يبدو أنه طُرح في أكثر من مناسبة، لكن دون أن يجد استجابة عربية واضحة حتى الآن.

لكن ما لم تدركه هذه الجهات بعد، أن غزة ليست مجرد "ملف إنساني" يمكن إدارته بالحصار والإغراءات، بل هي نقطة اشتباك حقيقية، أثبتت مرارًا أنها قادرة على قلب الطاولة على أي مشاريع تهدف إلى تفريغ الأرض من أهلها.

التحديات أمام مشروع التهجير

إذا كانت الإدارة الأميركية  -ومعها حكومة الاحتلال- تراهن على تفريغ غزة كحل نهائي، فإن هذا السيناريو يواجه عقبات جوهرية، ليس فقط من الفلسطينيين، ولكن على مستوى المنطقة ككل:

-استحالة القبول الإقليمي بموجات لجوء جديدة: معظم الدول العربية لا تستطيع -ولا تريد -تحمّل تبعات استيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، ليس فقط لأسباب اقتصادية، بل بسبب الحسابات السياسية والتوازنات الديموغرافية الداخلية وهو ما تعتبره هذه الدول مساساً بأمنها القومي.

-الواقع الديموغرافي في غزة: رغم الظروف القاسية، لم يُظهر الغزيون ميلًا جماعيًا للهجرة، بل على العكس، فإن الحرب الأخيرة أثبتت أن هناك صلابة غير مسبوقة في مواجهة الضغوط.

-التأثير على استقرار المنطقة: أي محاولة لفرض التهجير بالقوة ستؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة بالكامل، خاصة أن القضية الفلسطينية لا تزال عاملًا حساساً يُشعل الغضب الشعبي في الدول العربية، ويمكن أن يؤثر على شرعية الأنظمة الحاكمة.

-المعادلة الأمنية الإسرائيلية: حتى من منظور إسرائيلي، فإن تفريغ غزة من سكانها قد لا يكون بالضرورة في مصلحتها، لأن البديل سيكون قطاعاً خارج السيطرة بالكامل، وربما يتحول إلى ساحة مواجهة مستمرة بدلًا من أن يكون تحت إدارة محلية تضمن الاستقرار النسبي.

-المعادلة الدولية: لا تزال هناك أطراف دولية، خاصة في أوروبا، لا ترغب في الانخراط في مشروع تهجير قسري للفلسطينيين، لأنها تدرك أن ذلك سيفتح جبهة جديدة من الأزمات الإنسانية والسياسية.

من يظن أن انتهاء العدوان يعني خروج غزة من دائرة المواجهة، فهو لم يقرأ المعادلة جيدًا. المعركة لم تنتهِ، بل دخلت مرحلة أكثر دقة، حيث تحاول أطراف عديدة فرض رؤيتها لمستقبل القطاع. لكن غزة، التي نجت من عشرات السيناريوهات التصفوية، تدرك أن أي تسوية لا تقوم على أساس الصمود، لن تكون سوى محطة أخرى في مشروع طويل لإضعاف القضية الفلسطينية.

وإذا كان البعض يراهن على أن إعادة الإعمار ستتحول إلى سلاح يُستخدم ضد المقاومة، فإن التجربة أثبتت أن غزة لا تُبنى بالحجر فقط، بل بالإرادة، وهذه الإرادة هي التي حطّمت كل مشاريع الاستسلام السابقة، ولن تسمح بتمرير أي حل يكون على حساب الحق الفلسطيني.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.



دول ومناطق


روزنامة المحور