في يوم بدر كان عديد "قريش" أكثر بثلاث أضعاف من عديد المسلمين، وعتاد المسلمين لا يكاد يذكر أمام عتاد المشركين (فرس أو فرسان وأقل من عشرة سيوف)، ومدينة المسلمين معزولة ومحاصرة ومصادرة أملاك أصحابها فيما أن أموال قريش تفوق الحصر والعدد، إلا أن امتثال المسلمين للتكليف الإلهي بنظْم الأمر وبالإمكانات المتاحة والصبر والمقاومة حقق نصر "الفئة القليلة" وغلبت "الفئة الكبيرة" المستكبرة.
كانت بدر ساحة قتال المبادئ والأفكار والدوافع، جسدتها القبضات والسيوف في معركة صارمة. غلبت فيها الفئة القليلة، الفئة الكبيرة التي بغت وأدارت للهدى ظهراً وصمتت عنه سمعاً. وكانت لها ضرورة وحاجة فاقت في الأهمية ذلك المنظر الرهيب في وادي بدر حين انهزم المشركون تاركين أسلحتهم وأمتعتهم، وأبطال الإسلام في وسطهم يأسرون ويقتلون. لقد آن للإسلام أن ينطلق من معقله، فخرج المسلمون يحققون الانطلاقة، وبجهد وعزم وإيمان صادق بدأوا زحفاً غيّر وجه التأريخ. فلم تسترجع قريش هيبتها بعد ذلك اليوم بالرغم من أنها حققت انتصاراً جزئيّاً في معركة أُحُد، لكن المسار الكلي للمشروع الإسلامي كان تصاعديّاً انتهى بمعركة فتح مكة.
ومع اختلال ميزان القوة العسكرية بين الفريقين إلا أن النبي قام بمجموعة تدابير حرص من خلالها على توفير الظروف الطبيعية لصناعة النصر، وذلك من خلال تهيئة الشروط والأسباب الطبيعية لذلك، وقد تجلّى ذلك من خلال عدة أمور:
- جمع المعلومات من خلال بث العيون ومسح المنطقة جغرافياً بشكل عام، ودراسة مرتفعاتها ومائها ومعرفة أماكن سير العدو، وعدده، وعتاده، وقياداته، ومعنويات القاتلين، وغيرها من الأمور التي حرص النبي على توفرها بشكل كامل.
- بناء غرفة عمليات سميت (بالعريش)، وذلك بإشارة سعد بن معاذ، يراقب الرسول منها سير المعركة ويشرف عليها، ويعطي أوامره من خلالها، فضلاً عن مشاركته الميدانية في القتال وتنظيم الصفوف وترتيب سير المعركة.
- الاستفادة من الخبراء كمسألة تغوير الماء، أي بناء أحواض تحول دون وصول الماء إلى الأعداء، وقد أشار الحباب بن منذر وهو قائد عسكري مجرب على النبي بهذه المكيدة.
- تنظيم الجيش، وذلك من خلال عقد رايتين، سلّم واحدة لعلي بن أبي طالب عليه السلام والثانية لمصعب بن عمير، واختيار النبي لثلاثة من المقاتلين الأكفاء للمبارزات الفردية التي حدثت قبل نشوب المعركة، فقد اختار النبي علياً عليه السلام والحمزة رضي الله عنه وعبيد بن الحارث، لمبارزة عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.
- رفع معنويات الجيش، فقد كان النبي يثبتهم ويحرّضهم على القتال ويعدهم بالنصر، فقد رُوي عنه أنه كان يجول بين المقاتلين قائلاً: والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.
النتائج والدلالات من معركة بدر
يجب قراءة النصر الإلهي في معركة بدر كونه لم يكن نصراً محدوداً في معركة محدودة بالمقياس العسكري، بل كان يترتب على هذه المعركة مصير المشروع الإسلامي، ولو لم يتحقق النصر للمسلمين فيها لكان قضي على الرسالة في مهدها، يظهر ذلك في دعاء النبي (ص) يوم بدر: "... اللهم إذا إنك تهلك هذه الطائفة من الإسلام فلن تعبد في الأرض أبدا ..."، أو هو ما عرف بالمفهوم العسكري "انتصار دفاعي" ضد المشروع القرشي، وامتدت السياسة الدفاعية للمسلمين في وقائع متتالية منها: غزوة الخندق، ما أدى إلى مراكمة القوة القتالية والأسباب المادية والحصول على كمّ كبير من الغنائم والعتاد التي أثّرت على مسار صعود مشروع الإسلام والتحول إلى المسار الهجومي في معركة فتح مكة.
الكاتب: شادي علي