الخميس 31 تشرين أول , 2024 12:28

حرب لبنان وتحول المعادلات: عن اقامة الردع في الميدان

تثار في سياق تحليل نتائج الحرب الاسرائيلية الراهنة على لبنان مسألة انهيار معادلات الردع التي تمكنت المقاومة الاسلامية في لبنان من فرضها بالقوة على مدى سنوات الصراع مع العدو الاسرائيلي. ويجهد فريق من السياسيين والمحللين ووسائل الاعلام ذات التوجه السياسي المناوىء للمقاومة على تسويق هذه النظرية بوصفها فشلا او تراجعا في قدرة المقاومة، او عودة الى الاستحكام الاسرائيلي في ميدان الصراع وتجاوزه كل قواعد الاشتباك والردع المتبادل وتفلته من أي قيد مستدلين على ذلك بما تقوم به القوات الاسرائيلية من استباحة للمدنيين والمدن والبلدات والقرى في لبنان دون ان يكون هناك قدرة للمقاومة على وقف هذه الغطرسة ومنعها من التمادي في هذه الاستباحة.

وقد كان الانطباع السائد ان المقاومة الاسلامية قادرة على فرض معادلة المدني مقابل المدني والمدينة مقابل المدينة والمطار مقابل المطار وغيرها من المفردات التي صاغتها قيادة المقاومة بعناية وطمأنت جمهورها منذ ما بعد تحرير العام ٢٠٠٠ وما بعد عدوان تموز ٢٠٠٦ على تمكنها من تثبيت هذه المعادلات والاستمرار في العمل بها في جميع الظروف، وتوفير الامكانيات العسكرية اللازمة لتنفيذها من ذخائر واسلحة مناسبة وبنك اهداف وخبرة في ضبط الاحداثيات والدقة في الاصابة، والاهم من ذلك توافر الارادة والقرار لتفعيل تلك المعادلات، وايضا الرؤية السياسية الاستراتيجية التي يتم تحت سقفها تفعيل عناصر القوة التي تم مراكمتها بشكل مختلف ومتسارع منذ ما بعد العام ٢٠٠٦ والجمع ما بين الشجاعة والحكمة والتروي في ادارة صراع بهذا الحجم. ويمكن القول ان حزب الله تمكن بالفعل من صوغ عقيدة عسكرية متكاملة تنسجم مع توصيفه "قوة غير نظامية" ذات بعد اقليمي وقادرة على خوض "حرب لا متناظرة" تمكنها من تحقيق الاهداف المتبناة الثابتة او التي تطرأ في سياق أي حرب. ويصح القول ان بعض الاسئلة تعتبر مشروعة حول سبب ما يسميه البعض الانهيار السريع لقواعد الاشتباك ومعادلات الردع بين حزب الله والكيان الاسرائيلي في وقت قياسي. 
لكن الحقيقة هي انه لا يمكن مقاربة هذا الموضوع باسئلة مقتضبة ذات طابع مهني محض، ولا بأجوبة اكثر اقتضابا او تحاشي الاجوبة ظنا بأنه لا يتوافر جواب على هذه التساؤلات. 
الواقع ان تفسير ما يجري يمكن ان يتم في سياق فهم كلي لمسار المواجهة والسلوك الاسرائيلي وطبيعة المعركة الراهنة وتوصيف الاخطار المحدقة ونوعية الاهداف المحددة. وبناءا عليه يمكن ادناه ادارج بعض التوصيفات والوقائع ادناه كجزء من مساهمة لفهم طبيعة وحقيقة التراجع/ التحول والمسار المستقبلي المرتبط بالحرب الحالية.  
١-  تخوض اسرائيل الحرب الحالية ضد حزب الله في لبنان وقبلها وبالتوازي ضد قطاع غزة بمفهوم "العصابة وليس الدولة"، وهذا أمر شديد الأهمية برز بشكل جلي من خلال الوحشية المفرطة في القتل والتدمير بلا هوادة وبلا أي اعتبار لأي حصانات للمدنيين وللاعيان المدنية ونسف كل الاتفاقيات والمبادىء القانونية الدولية وعدم الاكتراث لأي نص او قاعدة او عرف او اتفاقية او مبدأ، وبالتالي تفلتت اسرائيل من اي قيد دولي تشريعي او مفاهيمي، وسقطت امام هذه الوحشية الاسرائيلية المفرطة كل المؤسسات الدولية والاقليمية المسؤولة عن حفظ وادارة حالتي السلم والحرب. وبلغ الامر بمندوب اسرائيل في الامم المتحدة ان مزق ميثاق الامم المتحدة علنا في مقر الجمعية العامة دون اي ردة فعل دولية زاجرة مثل عقوبات وغيرها او تعليق عضوية اسرائيل في الامم المتحدة. وشكل هذا امتحانا لكل فلسفة وفكرة القانون الدولي والشرعية الدولية والمؤسسات الدولية وهي القواعد والمعادلات الاساسية التي تلزم اي دولة بالتقيد بها واحترامها. ومن دون اطالة لشرح لهذه النقطة فانه يصبح مفهوما كيف نسفت اسرائيل قواعد الاشتباك ومعادلات الردع على الجبهة اللبنانية بعدما نسفت وتجاوزت ما هو اعلى منها من ضوابط وقواعد ومعايير، وبالتالي يسهل فهم هذا التصرف الاسرائيلي المتفلت الذي يبرر لنفسه هذا الخروج على كل شيء بذريعة (وهي حقيقة) ان الكيان الاسرائيلي المؤقت يعالج تهديداً وجودياً بدأ يتلمسه على الارض منذ السابع من اكتوبر ٢٠٢٣. وبمعزل عن هذا التفلت فان الحرب هي الفرصة الأولى او التعبير الأول عن كسر لكل التفاهمات والاتفاقات والمعادلات وبالتالي يصبح التساؤل عن فعالية معادلة ما ووجودها من عدمه أمر غير مهني لأن وظيفة الحرب تغيير وانشاء وضعية ومعادلات جديدة، وتعني الحرب بالمجمل انتهاء مفعول اي اتفاق او معاهدة او معادلة. فكيف اذا كانت الحرب الحالية ارتقت في التعريف الاسرائيلي الى تصنيفها "حرب النهضة" او "يوم قيامة جديد" يهدف الى بناء جديد للشرق الأوسط.
٢- تحت هذا السقف الاعلى وتحت خلفية تموضع الخطر الوجودي في العقل الاسرائيلي يمكن القول ان اسرائيل تحسست مجموعة من الاخطار الوجودية والاستراتيجية مجتمعة مع انتهاء مفعول العقيدة العسكرية الامنية التي كلفت اسرائيل والولايات المتحدة عقوداً من الصراع والاكلاف البشرية والمادية لتثبيتها، ثم فجأة وجدتها تنهار بالتدريج او دفعة واحدة في المرحلة الاخيرة. لا داعي للاطالة في شرح كيف تداعت اركان هذه العقيدة الاربعة: الردع، الانذار المبكر، القتال في ارض العدو والحسم، وهو مسار لا يمكن تجاوزه في اي مبحث او نقاش لفهم خلفية السلوك الاسرائيلي الراهن سواء في لبنان او غزة او المنطقة عموماً. فالردع تضرر منذ حرب تصفية الحساب في تموز عام ١٩٩٣ عندما فرض حزب الله تفاهما شفهياً بالنار بعد سبعة ايام من العدوان على لبنان واطلق رسمياً معادلة المدنين اللبنانيين مقابل المستوطنين الصهاينة، وهو في ذلك الحين قوة محلية بامكانيات محدودة، ثم ومع ذلك تمكن بعد ثلاثة اعوام (١٩٩٦) من تثبيت هذه المعادلة خطياً في تفاهم نيسان برعاية الامم المتحدة والولايات المتحدة في اعقاب ١٦ يوماً من العدوان الذي اسمته اسرائيل عناقيد الغضب. تحرير العام ٢٠٠٠ أسقط نظرية الاجتياح والسيطرة من العقل السياسي والعسكري الاسرائيلي بعدما توج ايضاً بتحرير غزة والهروب من هذا الجحيم الفلسطيني. ثم ثبت حزب الله معادلات الردع بشكل اوسع بعد الفشل الاسرائيلي في حرب لبنان الثانية وفق التسمية الاسرائيلية (عدوان تموز ٢٠٠٦)، وما تلاها من اخفاقات اسرائيلية في الحروب المتكررة على قطاع غزة. حتى المعركة بين الحروب التي خاضها الاسرائيلي ضد تراكم القدرات الايرانية وقدرات محور المقاومة في سوريا دون تبني رسمي للغارات والقصف عبرت ايضا عن معادلات الردع التي خضع لها الكيان الاسرائيلي المؤقت. 
اذن تحول مفهوم الردع من طرف واحد يفرضه الجيش الذي لا يقهر الى ردع متبادل مع حزب الله في لبنان اولاً ومع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ثانياً ومع ايران في مناطق خارج ايران ثالثاً. هذا الانهيار التدريجي لمرتكز اساسي من العقيدة العسكرية الاسرائيلية تلاه انهيار حقيقي لثلاثة مرتكزات دفعة واحدة في السابع والثامن من اكتوبر ٢٠٢٣ عندما فشلت استخبارات العدو بكل اذرعها وايضا المستوى السياسي الاسرائيلي في توقع عملية طوفان الاقصى والاستعداد لها واحتواء مخاطرها. فلا حصل انذار مبكر بشان عملية حماس ولا بشأن ردة فعل حزب الله اسناداً لغزة ولا حتى جبهتي الاسناد اليمنية والعراقية. وطوب الفشل الاسرائيلي الاستخباراتي بانهيار تام لمفهوم وقدرة الانذار المبكر وصولاً الى عمليتي الوعد الصادق ١ و٢ الايرانيتين. ولا تزال اسرائيل حتى الان تفتقد القدرة على فهم توقع سلوك اعدائها رغم كل ما تقوم به من عمليات مباغتة واستباقية بطريقة عشوائية كأسلوب حصري لمعالجة "الاخطار المحتملة".

لقراءة الدراسة كاملة




وسوم مرتبطة

دول ومناطق


روزنامة المحور