إذا كان العام 2023 سيئاً على وحدة الكيان الإسرائيلي وترابطِهِ الداخلي، فإن العام 2024 حمل الأسوأ، لجهة تفاقم النزاعات السياسية الداخلية. على هذه الوحدة الهشّة والمتآكلة. في العام 2023 لاحت بوادر الصراع مع التظاهرات الاحتجاجية شبه اليومية، التي خرجت ضد نتنياهو وسياساته، لكن بروز أحداث 7 أكتوبر وما تمخّضت عنه من أزمات داخل المجتمع الإسرائيلي، كانت كفيلة بالقضاء على ما تبقّى من مظاهر التماسك السياسي والعسكري والاجتماعي.
أنتج 7 أكتوبر أزمة الأسرى الذين اختطفتهم حماس، فنتج عن ذلك مطالب سياسية واجتماعية لدى حوالي 250 عائلة إسرائيلية. وأظهرت أحداث 7 أكتوبر أيضاً، التقصير الاستخباراتي والعسكري لدى الشخصيات القيادية في الحكومة والجيش، الذين تبادلوا الاتهامات بالتقصير وإلقاء اللوم والمسؤوليات على بعضهم، وصولاً إلى درجة التخوين! وجاءت حرب الإبادة بجحافل العسكريين الاحتياطيين (المنهكين)، في الوقت الذي يرفض فيه المتديّنون الانضواء في السلك العسكري والقتال لحماية الدولة والدفاع عنها.
لم يكن تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في 18/6/2024 الذي زعم فيه أنه "لن يكون هناك حرب أهلية في إسرائيل"، إلا صدىً لنقاش يدور في الأوساط السياسية الإسرائيلية وفي مستويات رسمية وأكاديمية وشعبية قبيل طوفان الأقصى وبعده، من خطورة التفكك الداخلي الإسرائيلي نتيجة الانقسامات بين القيادة السياسية نفسها، وانقسامات على مستوى القواعد الشعبية، تجاوزت حدة الخلافات الطبيعية التعددية داخل الدولة. ولكي ندرك جذور الانقسام الحاصل في "إسرائيل"، لا بد من الإشارة إلى المرحلة التكوينية لهذا الكيان وكيف تم تأسيس نواة هذا المجتمع، الذي يعتبر بطبيعة الحال مجتمع جديد. قائم على أيديولوجيا استيطانية استعمارية أثنية، تسوده الاختلافات الحضارية والثقافية والدينية. مجتمع ناتج عن هجرة يهودية من جميع أصقاع العالم إلى فلسطين، بهدف بناء كيان اجتماعي سياسي موحد.
فالسمة الاستيطانية للبنية الاجتماعية حالت دون النجاح في انصهار المكونات الأم في بوتقة صهر واحدة ومجتمع واحد، وحالت دون صناعة الإنسان الجديد والمستقبل الجديد كما خطط له الآباء المؤسسون. مما جعله مجتمع شديد الدينامية تسوده الصراعات السياسية والاجتماعية العميقة والانقسامات الإثنية والطبقية والثقافية، بالرغم من الاتفاق على المبادئ الأساسية للحركة الصهيونية. صراعات أدت للتغيير بالاتجاه والدرجة داخل المجتمع الإسرائيلي، تغيرات مثيرة، كبيرة وشاملة، ظهرت على السطح في العام الأول من طوفان الأقصى، أو بشكل أدق قبيل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 بفترة وجيزة وتفاقمت خلال الحرب، وهي مرشحة للانفجار خلال وبعد نهاية العمليات العسكرية في قطاع غزة والضفة الغربية، وفي الشمال بمواجهة المقاومة اللبنانية.
وعلى مستوى القيادة السياسية شهد عام طوفان الأقصى خلافات حادة ومشادات كلامية وانقسامات محفوفة بالخطر، من الانقسام بين الحكومة والمعارضة إلى الانقسام بين القيادة السياسية والعسكرية والأمنية، محورها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والخيارات التي تبنّاها، واختلاف الرؤى بين مكونات الأطياف السياسية الإسرائيلية التي تتعلق بقضايا أساسية متصلة بالحرب بل جوهرية تتعلق أيضاً بمستقبل الكيان ورؤيته للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
الحرب الأهلية الإسرائيلية
جاء في صحيفة هآرتس في عنوان مقال في 17/1/2024، أن "على الديمقراطيين في إسرائيل الاستعداد لحرب أهلية"، ثم تعود الصحيفة ذاتها في أواخر أيار/ مايو 2024 لتضع عنواناً لمقال آخر فيها هو: أنصار نتنياهو يشكّلون معلماً آخر على الطريق نحو الحرب الأهلية في "إسرائيل".
وكتب أحد رجال الصف الأول السابقين في جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك" وهو ليور إكرمان مقالاً قبل طوفان الأقصى بشهرين، عنوانه "هل الحرب الأهلية سيناريو ممكن في إسرائيل؟" عندما كانت المظاهرات الاحتجاجية تعمّ "إسرائيل" ضدّ ما سمّيَ بالتعديلات القضائية التي طرحها نتنياهو، وقال إكرمان أن "الفجوة الإيديولوجية العميقة والصدوع الواسعة بين وجهات النظر العلمانية التعددية ووجهات النظر الدينية المحمومة التي تسعى إلى تحويل شخصية إسرائيل، حسب رأيه، ثم التفاوت بين الكيفية التي ينظر بها أي من الجانبيْن إلى إنفاذ القانون، إلى جانب الفارق الهائل في فهم واستيعاب جوهر النظام الديموقراطي، أو الدور الذي تلعبه مؤسساته وسلطاته عند كل طرف، وهو يرى أن كلما سبق يوجِد أرضية ملموسة لتطور حرب أهلية إسرائيلية بالفعل". وأضاف "وبالنظر إلى كل البيانات المعروفة، واستناداً إلى تحليل الوضع الحالي، لا بدّ من التوصل إلى استنتاج مقلق مفاده أن "دولة إسرائيل" قد تنتهي إلى صراع أهلي عنيف يمكن له أن يتصاعد إلى حرب أهلية يشارك فيها جنود جيش الدفاع الإسرائيلي".
وهذا الهاجس من الحرب الأهلية لا يقتصر على القادة والإعلاميين والمفكرين بل ولدى الرأي العام الإسرائيلي؛ الذي عبّر في آخر استطلاع رأي إسرائيلي حول الحرب الأهلية عن خشيته من وقوعها بمعدل 46%.
أما على مستوى القيادات السياسية الإسرائيلية، فإن هذا الهاجس من الحرب الأهلية سبق وأن تمّ طرحه من رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، في تموز/ يوليو 2023، أي قبل طوفان الأقصى. كما أن الرئيس الإسرائيلي حاييم هيرتزوج حذّر من "انزلاق إسرائيل نحو حرب أهلية" بسبب الإصرار من تيار إسرائيلي على استمرار الاستيطان وتهجير الفلسطينيين، وطبيعة الحل مع الفلسطينيين، ومع الدول العربية، وكيفية التعاطي مع توجهات المجتمع الدولي.
هذه العناوين والشروط ظهرت جلياً في عام طوفان الأقصى على وقع الحرب مع الفلسطينيين في غزة ومن بعدها في الضفة، وانسداد أفق الحلول السياسية مع الفلسطينيين، وبالتالي على صعيد القضية الفلسطينية. ويبدو أن ثلاثة وقائع حدثت خلال الفترة 2023–2024 أسهمت في إيقاظ الهاجس من الحرب الأهلية في الكيان، وهي:
- التعديلات القضائية التي اقترحتها حكومة نتنياهو وعدّها التيار المقابل انقلاباً على الشرعية، مما جعل المظاهرات الاحتجاجية في الشارع الإسرائيلي منظراً مألوفاً وشبه يومي خلال فترة ما قبل الطوفان.
- موضوع الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، والذين تمّ أسرهم خلال الأيام الأولى من معركة طوفان الأقصى، وما أثاره فشل حكومة نتنياهو في معالجة القضية وإعادتهم، مما تسبّب في احتجاجات متواصلة ومتزايدة ضدّ الحكومة والمؤسسات الأمنية، وتراشق القيادات العسكرية والسياسية الاتهامات لبعضهم حول الفشل.
- احتدام النقاش بين التيارات السياسية والثقافية في "إسرائيل" حول قضية تجنيد اليهود المتدينين، خصوصاً من يطلق عليهم الحريديم، وهو الأمر الذي كان من ضمن تداعيات طوفان الأقصى.
الخلافات بين القيادات السياسية
أما على مستوى القيادات السياسية الإسرائيلية، ظهرت الخلافات اليومية بين مؤيد لخيارات نتنياهو ومعارض لها، وليست مبالغة القول إن كل تفصيل في السياسة الداخلية والخارجية الإسرائيلية اكتسب زخماً من التناقضات بين وزراء الحكومة وبين الموالاة والمعارضة وداخل حزب الليكود نفسه وكابينت الحرب. وبعد مرور سنة على الحرب يستمر التباين بـ الآراء حول "اليوم التالي" لهذه الحرب بين ما تراه المؤسسة العسكرية من اكتفاء بما تم إنجازه وما يريده المستوى السياسي من استمرار لهذه المعركة باعتبارها حرب "الاستقلال الثانية".
أولاً، رؤية الكيان لشكل السيطرة على قطاع غزة:
- رؤية نتنياهو:
يختلف قادة الكيان على شكل اليوم التالي للحرب على غزة في حين يتمسك بنيامين نتنياهو، بالسيطرة على قطاع غزة ما يعنيه وجود دائم لقوات الجيش، في المقابل ترى المؤسسة العسكرية أنّ هذا الخيار سيئ نتيجة التبعيات التي ستلحق بالجيش، وبتاريخ 23/2/2024، طرح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو رؤيته لليوم التالي للحرب وحدد فيها النقاط التالية:
- نزع السلاح.
- إعادة الإعمار مشترط بـ نزع السلاح في القطاع بشكل كامل.
- القضاء على "التطرف".
- تواجد لجيش الاحتلال على الحدود بين غزة ومصر جنوبي القطاع وأن تتعاون مع مصر والولايات المتحدة في تلك المنطقة لمنع محاولات التهريب، بما يشمل معبر رفح.
- إدارة الشؤون المدنية في غزة من قبل مسؤولين محليين ذوي خبرة إدارية ليسوا على ارتباط بدول أو كيانات تدعم "الإرهاب".
- تفكيك حركتي حماس والجهاد الإسلامي وإطلاق سراح جميع الأسرى.
- إغلاق وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التابعة للأمم المتحدة لتحل محلها منظمات إغاثة دولية أخرى.
- رؤية المعارضة:
أما فيما يخص المعارضة ترى في خيار نتنياهو، أنه الأسوأ من بين الخيارات المطروحة ويعود ذلك للأسباب التالية:
- استمرار الحكم العسكري لغزة سيكون دموياً ومكلفاً وسيستمر أعواماً.
- سيحتاج الجيش في هذه الحالة لقوات هائلة.
- سيتكبد الجيش خسائر بشرية فادحة تضطره لمغادرة غزة بلا رجعة.
- الضرر الكبير على الاقتصاد الإسرائيلي.
ثانياً: فيلادلفيا.. أولوية أمن الدولة أم حياة الأسرى:
في خضم السجال المتصاعد داخل الأوساط السياسية والعسكرية والإعلامية الإسرائيلية، حول أولوية صفقة تبادل أسرى على حساب الانسحاب من محور فيلادلفيا، أو البقاء فيه، والمُخاطرة بحياة من تبقّى من الأسرى، خصوصاً بعد مقتل 6 أسرى إسرائيليين، واشتعال أكبر مظاهرة بتاريخ الكيان، تباينت الآراء بشكل حاد بين مؤيد لأولوية "إعادة المختطفين"، وبين من يقدّم قضية الأمن القومي كقيمة استراتيجية وجودية عليا؛ ومن هذه الزاوية تبلورت معادلة: محور فيلادلفيا أم حياة الأسرى، ومعها تشعّب النقاش الإسرائيلي العام بشأن هذا المحور وقيمته الاستراتيجية والأمنية.
يقود رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو المعسكر المؤيّد للبقاء في فيلادلفيا، باعتباره ضرورة أمنية - استراتيجية، فيما تتبنّى الأحزاب المصنّفة كوسط - يسار، موقفاً معارضاً، يعتبر تحرير الأسرى أولوية قصوى، وينسجم موقفها مع موقف المؤسسة الأمنية والعسكرية، حيث لا يعدّ احتلاله-برأيهم -أمراً حاسماً في المعادلة الاستراتيجية. ويتهم هؤلاء، نتنياهو، بأنه يستخدم محور فيلادلفيا، كذريعة لتعطيل صفقة التبادل والحفاظ على سلطته ومنصبه في رئاسة الوزراء ورؤيته في استمرار الحرب.
وعلى صعيد المجتمع الإسرائيلي المنقسم، نتيجة اختلاف رؤى القيادات السياسية الإسرائيلية، وتعبئة الجماهير من خلال الخطابات أو من خلال الحراك في الشارع، أظهر استطلاع رأي (قناة كان) أن 53% من الإسرائيليين (يهوداً وعرباً) يؤيدون الانسحاب من محور فيلادلفيا، في مقابل 29% يعارضون.
خاتمة
لعل التصريحات التي تصدر عن المسؤولين والقيادات في مختلف التيارات، بالإضافة إلى الاحداث والتطورات الجارية على الأرض، تشير بوضوح إلى تهيئة أرضية حقيقية وترجمة واقعية لفكرة قيام كيانات سياسية متعددة. وتشير الدراسات في الكيان أن هناك إجماع لدى علماء الاجتماع اليهود على عدم قدرة مجتمع المستعمرين أو الدولة العميقة على رأب الصدع أو التجسير بين المجموعات المختلفة والمتصارعة. لذلك قد نجد البعض من هؤلاء العلماء والمتخصصين يتحدثون عن تقسيم الدولة إلى عدة مناطق متجانسة إلى حد ما في الموقف من الدين، الإثنيّة والليبراليّة، كمحاولة لإنقاذ الدولة من مصيرها المحتوم.
ما يزال حجم الصراع مضبوط نتيجة حسابات الأطراف ومصالحهم المتداخلة، وكذلك من الجدير ذكر العامل الامريكي الذي يراقب كل تفصيل ويضبط ايقاع وسلوك كل الاطراف للمحافظة على الدولة العميقة ومنع المساس بها. في هذا السياق، أشار "علي جمال الدين بظّت" في دراسته بعنوان "دويلات داخل الدولة" إلى أن "مستوى العنف الاجتماعي على الرغم من أنه قطع عدة مراحل ووصل الى مرحلة التصعيد ولكنه لم يصل إلى مرحلة الازمة والصراع تمهيداً للتقدم نحو الحرب الاهلية إلا أنه يمكن في مجتمع يعاني العديد من الشقوق ان يتجاوز بسرعة مراحل التقدم في العنف الاجتماعي ويمكن ان يحصل ذلك نتيجة حدث صغير (نظرية رقصة الفراشة) والانتقال إلى الحرب الاهلية بشكل مفاجئ وسريع".
وفي دراسة بعنوان البجعة السوداء في المستقبل الإسرائيلي يصل الباحث أ. د. وليد عبد الحي إلى نتيجة مفادها أن "التحليل الذي توصلنا له باحتمال الحرب الأهلية في "إسرائيل" هو 40.3%، قابل للتغير نحو الأعلى إذا تضافر عاملان معاً وهما: قدرة المقاومة على الصمود في قطاع غزة من ناحية، واتساع تأثيرات الخطر الخارجي مع تنامي قبول المجتمع الدولي بحل الدولتين من ناحية ثانية، مما يسبب اتساع الاستقطاب السياسي والاجتماعي في "إسرائيل" للتعامل مع هذا الاحتمال، ويرى بعض الباحثين بأن "إسرائيل" ستجد نفسها في مواجهة مع المستوطنين في الضفة الغربية في حالة إقرار هذا الحل، وهو الاحتمال الذي سيقود لمواجهات تحاكي الحرب الأهلية، وتغذيها سلطة حاكمة على أسس ثيوقراطية متزمتة تتناقض تماماً مع الأسس التي ادّعى إعلان "الاستقلال الإسرائيلي" تبنيها، ولعل هذه الصورة تمثل الهاجس المركزي في تفكير القوة السياسية الحاكمة في "إسرائيل"، مما سيزيد هذه القوة نزوعاً نحو مزيد من العنف في الحرب الحالية مع محور المقاومة".
الكاتب: غرفة التحرير