الإثنين 14 نيسان , 2025 03:37

بين التفجير التكتيكي والرسائل الإقليمية: قراءة في عودة القسام وتصاعد الإسناد اليمني

عنصر من حماس وصاروخ فلسطين 2

في قلب الجحيم المستمر منذ أكثر من عام ونصف، وسط الركام والجوع والبرد والدمار، وبين جدران رفح التي تنطق بالموت، فجّرت كتائب القسام منزلاً مفخخاً بقوة إسرائيلية متوغلة، في عملية عسكرية قد تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل أبعاداً مركّبة ومعقّدة تتجاوز الميدان وتلامس أعماق المشهد السياسي الإقليمي والدولي، بما فيه من زيف، واستغلال، وتواطؤ مؤسساتي. هنا، تكمن أهمية السؤال لا في “ماذا حدث؟” بل “لماذا حدث؟” وما الذي يخفيه توقيت العودة إلى هذا الشكل من العمليات النوعية؟

الإعلام الغربي كأداة استعمار: من يُعرّف الإرهاب؟

منذ بداية الحرب، حرصت "إسرائيل"، مدعومة بغطاء أميركي شبه مطلق، على شيطنة كل أشكال المقاومة وتحويل غزة إلى حقل تجارب لتقنيات الحرب والإبادة، في مشهد يذكّرنا، لا عن طريق الصدفة، بتاريخ الاستعمار الغربي الذي جعل من المستضعفين حقلاً لتجريب أدوات السيطرة والخراب. لم تكن هذه الحرب استثناء، بل كانت تتويجاً لمسار طويل من هندسة الوعي وتطويع المفاهيم؛ فبينما يسمّى تدمير حي سكني على رؤوس قاطنيه “عملية نوعية”، يُنظر إلى تفجير منزل مفخخ بقوة متوغلة كفعل “إرهابي”.

التوقيت كل شيء: حين تختار المقاومة لحظتها

لكن كتائب القسام، حين تعود إلى هذا النوع من العمليات، فهي لا تطلق فقط رسالة عسكرية، بل سياسية واستراتيجية بالغة التعقيد. تقول فيها: لسنا محشورين في الزاوية كما يشتهي الإعلام الغربي، بل نُحسن إدارة المعركة، ونفهم قوانينها، ونُتقن توقيت الفعل. العملية، إذاً، ليست فقط تكتيكاً ميدانياً بل ردٌّ على سؤال مركزي: أين المقاومة بعد كل هذا الزمن من القصف؟ والجواب: هي موجودة، لكنها تختار متى وكيف تضرب، في توقيت يربك العدو ويقلب ميزان الخوف.

 

لقد حاول "الجيش الإسرائيلي" –بصيغته المعلنة– رسم معادلة مفادها أن الحسم العسكري ممكن إذا توغّل في مساحات مفتوحة يصعب الدفاع عنها، كالشرقية من بيت حانون وحي الشجاعية، لكن هذه المعادلة فشلت. فالمقاومة لا تقاتل لتكسب أراضي، بل لتكسر الإرادة. وهنا جوهر الصراع. فكما قلنا سابقًا: “في الحروب غير المتكافئة، من يكسر إرادة الآخر، هو من ينتصر، وليس من يحتل أرضًا مؤقتًا”.

كمين واحد يكفي لتفكيك صورة الجيش الذي لا يُقهر

الرسالة الثانية للعملية، تُوجّه إلى الداخل الإسرائيلي. فالعدو الذي يروّج “نهاية المقاومة” عاد ليحصي خسائره البشرية نتيجة كمين واحد. ويُقال، وإن لم يُعلن صراحة، إن التأثير النفسي على الجنود –الذين تراجع تجنيد الاحتياط في صفوفهم بنسبة 50%– أخطر من نتائج المعركة نفسها. المقاومة تعرف، تماماً كما تعرف الأنظمة الغربية، أن ما يحرك الجيوش ليس الشجاعة، بل الأوهام، وما يوقفها هو تلاشي الوهم. وبهذا المعنى، فإن تفجيراً تكتيكياً واحداً يُعيد تشكيل الإدراك الأمني، ويُضعف الثقة بالقيادة العسكرية، ويُحرج الحكومة التي لا تملك أجوبة حقيقية سوى شعارات “النصر الكامل”.

من اليمن إلى غزة: تكامل الجبهات وتحدي الهيمنة

أما البُعد الإقليمي في هذه المعادلة، فيأخذ شكله الأكثر وضوحاً في التصريحات المتزامنة لأبو عبيدة، التي وجه فيها التحية لأنصار الله في اليمن. هذا ليس مجرد شكرٍ عابر، بل تأكيد على تكامل الجبهات، وتوزيع الأدوار في مواجهة مشروع إحلالي توسّعي مدعوم من أكبر إمبراطورية عسكرية في التاريخ المعاصر. وهنا، لا بد من تفكيك مفردة “الإسناد” لا على المستوى العسكري فحسب، بل كدلالة رمزية تقول: نحن لسنا وحدنا، والعدو لن يهنأ بخوض معركة بجبهة واحدة.

أنصار الله، الذين كان الإعلام العربي الرسمي يحتقرهم قبل سنوات ويصمهم بالرجعية والانغلاق، أثبتوا بجدارة أنهم طرف مؤثر في المعادلة الإقليمية. فمنذ إطلاقهم أولى الصواريخ تجاه الكيان الإسرائيلي، تغيرت قواعد اللعبة، وأربكت غرفة العمليات "الإسرائيلية"، بل وأثارت قلق واشنطن التي وجدت نفسها مضطرة إلى شن هجمات شبه يومية على مواقع مفترضة لأنصار الله، في مشهد يُذكّرنا باستراتيجية “ضرب العدو في كل مكان” التي اعتمدتها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر، لكنها اليوم تصطدم بحقائق جديدة: فعدو اليوم لا يتحرك وفق منطق الدولة، بل وفق منطق الفكرة، والفكرة لا تُقصف بالطائرات.

أميركا في حرب عبثية: عندما تفشل الغارات في إسكات الفكرة

تصريحات الخبراء العسكريين "الإسرائيليين" والأميركيين تُظهر حجم الارتباك؛ فصاروخ واحد ينطلق من اليمن يعطّل مطار بن غوريون ويُدخل الملايين إلى الملاجئ، ويؤخّر انعقاد جلسات الكنيست، بينما تفشل القبة الحديدية في اعتراضه فورًا. هذا ليس انتصاراً لأنصار الله وحدهم، بل مؤشر على تصدّع منظومة الردع الصهيونية، وفشل “الدروع السيبرانية” التي تباهت بها "إسرائيل" لعقود.

أما أميركا، القوة العظمى، فهي تخوض حربًا مفتوحة ضد الجماعة اليمنية في مشهد عبثي، لأن كل صاروخ يُطلق يثبت أن مئات الغارات فشلت في تحييد منصة واحدة، ما يجعل البيت الأبيض في موقع دفاعي دائم. ولعلّ المفارقة هنا أن ترامب، في سياسته تجاه نتنياهو، يبدو كما وصفناه سابقًا في حديثنا عن الإدارة الأميركية: “أشخاص لا تهمهم المبادئ، بل إدارة الأزمة بما لا يضر المصالح”.

من يهدد العالم فعلاً؟ قلب المعادلات بين البحر والدم

المصالح هنا تتداخل. فترامب يحرص على عدم تفكيك حكومة نتنياهو، خشية البديل الأكثر تطرفاً، ويصمت على جرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال في غزة، لأنه يريد الحفاظ على ما يسميه “التفوق الإسرائيلي النوعي”، وفي ذات الوقت لا يريد حرباً إقليمية تشتعل على أكثر من جبهة. وبهذا المعنى، فإن إسناد أنصار الله لغزة هو في جوهره تحدٍّ لمعادلة الهيمنة الأميركية – الصهيونية في الشرق الأوسط، لا بالخطابة، بل بالفعل.

إن دوي الانفجارات في تل أبيب والقدس، ليس مجرد صوت لصاروخ عابر، بل هو تشكيك في الرواية الرسمية لسلطة تظن أنها تستطيع إخضاع الشعوب عبر القوة العسكرية وحدها. وبهذا المعنى، فإن ما يحدث اليوم يعيد صياغة أسئلة الوعي: من هو الإرهابي؟ ومن هو المجرم؟ ومن يحق له الدفاع؟

معركة الوعي: من تحت الأنقاض يولد مشروع التحرر

اليوم، تحاول "إسرائيل" والولايات المتحدة تحميل أنصار الله مسؤولية تهديد الملاحة العالمية، بينما تغضّان الطرف عن تهجير الملايين في غزة، وتجويع الأطفال، وقتل الجرحى في المستشفيات. وما هذا إلا امتداد لنمط تاريخي من التواطؤ الإعلامي والسياسي، يجعل من الجلاد ضحية، ويحوّل المقاومة إلى مصدر تهديد.

لكن في المقابل، تعيد هذه العمليات بناء سردية جديدة للصراع، تنبع من الميدان وتتفوق على الخطاب الرسمي. فحين تُطلق المقاومة صواريخ من غزة، وأنصار الله من اليمن، وتقصف سرايا القدس نتساريم، ويُصاب جندي من لواء غولاني، ويتقهقر جيش الاحتلال في الشمال، فإن ما يحدث ليس مجرد اشتباكات، بل تحطيم تدريجي لصورة “الجيش الذي لا يُقهر”، وصعود لرؤية أخرى تقول إن العدالة ليست وهماً، وإن الشعوب حين تقاوم، تُربك حتى أعظم جيوش الأرض.

في النهاية، علينا أن نقرأ ما يجري لا من خلال عدسة الاستعجال بالنتائج، بل بفهم أعمق لسيرورة التاريخ. فالمقاومة لا تقيس المعركة بالأيام أو بالشهور، بل بالأثر. وإذا كانت "إسرائيل" تخوض حرباً لتأبيد نتنياهو في الحكم، فإن المقاومة تخوض معركة الوعي، وتهدف إلى إسقاط أوهام الهيمنة، وإعادة بناء الإنسان العربي والفلسطيني، لا بصفته ضحية، بل مشروع تحرّر دائم.

وهذا ما يجعل تفجير منزل واحد في رفح، رسالة أكبر من صواريخ جو-أرض: رسالة تقول إن إرادة التحرر لا تزال حية، وإن المعركة لم تنتهِ، بل بدأت من جديد، بسيناريوهات لا يفهمها سوى من قرأ التاريخ جيداً، وعرف أن من يسكن الأرض… لا يُهزم.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور